الأسطورة المفهوم والرمزية الشعرية
تتعدّد تعريفات الأسطورة ومفاهيمها تعدّدًا واسعًا. والسبب في ذلك كامن في تعدّد منطلقات الدرس الأسطوريّ وغاياته ووسائله، وتداول المصطلح في مختلف مجالات العلوم الإنسانية، أي صلته بما يُسمّى: “الحضور الكلّي” في المعرفة. أو “الدراسات البينية”، التي تعني تردّد موضوع واحد بين أكثر من حقل معرفي(1). وهو الأمر الذي جعل (سنت أوغسطين)(2)، يقول عندما سئل عن ماهية الأسطورة: “إنني أعرف جيدًا ما هي، بشرط ألا يسألني أحد عنها، ولكن إذا ما سئلت، وأردت الجواب، فسوف يعتريني التلكؤ”(3).
مفهوم الأسطورة
لم يَحُلْ هذا الاتسام بالتعدد، دون اتفاقٍ حول المعنى الجوهري للأسطورة. فهي في معجم لسان العرب: “الأحدوثة جمعها أساطير، وهي الأحاديث التي لا سند لها من الحقيقة. واشتقت الأسطورة من الفعل “سَطَرَ” فيقال سَطَرَ عليه فلان إذا جاء بأحاديث تشبه الباطل، وهو يسطر ما لا أصل له أي يؤلف”.
والأسطورة “هي الجزء الناطق من الشعائر البدائية، الذي نمّاه الخيال الإنساني، واستخدمته الآداب العالمية. ومن ثَمّ فهو يعني تلك المادة التراثية، التي صِيغتْ في عصور الإنسانية الأولى. وعبرّ بها الإنسان في تلك الظروف الخاصة عن فكره ومشاعره تجاه الوجود، فاختلط فيها الواقع بالخيال، وامتزجت معطيات الحواس والفكر واللاشعور. واتحد فيها الزمان كما اتحد المكان. واتحدت أنواع الموجودات من إنسان وحيوان ونبات، والتحمت في كلٍ متفاعل مع مشاهد الطبيعة وقوى ما وراء الطبيعة”(4). كما أنها “رواية أعمال إله أو كائن خارق ما. تقص حادثًا تاريخيًّا خياليًّا، أو تشرح عادة أو معتقدًا أو نظامًا أو ظاهرة طبيعية”(5). وهي بمعناها الأعم حكاية مجهولة المؤلف. تتحدث عن الأصل والعلة والقدر، ويفسر بها المجتمع ظواهر الكون والإنسان تفسيرًا لا يخلو من نزعة تربوية تعليمية.
الأسطورة والخرافة
تتميز الأسطورة عن الخرافة؛ في أن الخرافة ــ في عرف من يرويها ومن ينصت إليها ــ من محض الخيال، أو الأوهام. أو من “الأباطيل المستملحة”، يُقصد بها إلى “الإمتاع والمؤانسة”. أما الأسطورة فهي خطاب “الجد” و”الحقيقة”(6). بمعنى أن الأساطير في نظر أصحابها الذين ابتدعوها عين الحقيقة. أما في نظر سواهم فلا تؤخذ مأخذ الجد، بل هي عين الوهم والباطل والمحال. في حين أن الخرافة ليست محل اعتقاد من أي كان. لا من الذي يقصها ويرويها، ولا من الذي ينصت إليها(7). وربما يكون التفريق والتمييز الذي وضعه علماء الأنثروبولوجيا والفلكلور هو الأقرب إلى الصواب. ذلك، حين جعلوا الأسطورة لتفسير ظاهرة كونية عامة، والخرافة لتفسير ظاهرة جزئية بيئية.
الأسطورة وفعاليتها المجازية والرمزية
تختزن الأساطير ــ جميعها ــ فعّالية مجازية ورمزية، وتتضمّن في داخلها الحقائق التاريخية، أو الأدبية، أو الدينية، أو الفلسفية. ولكن على شكل رموز، تمّ استيعابها بمرور الزمن، على أساس ظاهرها الحرفي.
ويرى (تايلور)(8) أنّ الإنسان في المجتمعات الأولى كان يتمتّع بقدرة خاصة. تكاد تكون نوعًا من المَلَكَة، على صنع الأسطورة. نتيجة نظرته العامة إلى الكون، وإيمانه بـ “حيوية الطبيعة” (Animisme)، لدرجة تصل إلى حدّ تجسيد مظاهرها كلّها على نحوٍ رمزيّ. فالطقوس التي كان يؤديها كانت تهدف إلى أشياء أخرى، غير ما تنبئ به ظواهر تلك الطقوس. بمعنى أنها كانت تجسيدًا لبعض الأفكار الغامضة لديه، عن وجود كائنات عليا تملأ الكون. ولم تكن تلك الكائنات. التي زخرت بها أساطيره. سوى نوع من العون المادي، الذي ساعد على إضفاء شكل من أشكال الوجود والذاتية على تلك الأفكار. كما لم تكن سوى رموز لهذه الأفكار نفسها. ويمكن تلمّس مصادر هذه النظرية لدى فلاسفة الإغريق الأوائل. الذين فسّروا الأساطير على أنها “كنايات ومجازات، اخترعها مؤلفون، فضّلوا اللجوء إلى التلميح والرمز والاستعارة”(9).
لذلك فإن الأسطورة في رأي الفيلسوف الفرنسي (جيلبار دوران)نظمٌ لوقائع رمزية في مجرى الزمان. ويلتقي معه في ذلك، (بول ريكور). الذي يرى أن الأسطورة تثبت الأعمال الطقوسية ذات الدلالة، وتخبرنا عندما يتلاشى بُعدها التفسيري بما لها من مغزى استكشافي، وتتجلى من خلال وظيفتها الرمزية. أي في ما لها من قدرة على الكشف عن صلة الإنسان بمقدساته(10). إذ تقدم الأسطورة، مثلما يقدم الحلم تمامًا، قصة تجري في المكان والزمان. وتعبر بلغة رمزية عن أفكار فلسفية ودينية، وعن تجارب روحية ينطوي فيها المعنى الحقيقي للأسطورة.
الأسطورة والشعر
تربط الأسطورة بالشعر علاقة جمالية وفنية؛ إذ يرى أنس داود أن هناك تشابهًا بين الشعر والأسطورة، لغة وأداة. فلغة كل منهما هي تلك اللغة المجنحة، التي تومئ ولا توضح، وتوحي بالحقيقة ولا تقبض عليها. هي لغة الوجدان الإنساني في إحساسه بالأشياء، على نحوٍ غامض مستتر. ثم إن أداة التشكيل الأولى في الشعر وفي الأسطورة هي الخيال، فهو ــ هنا وهناك ــ الذي يكتشف وسائل التجسيد للشعور والفكر، ويصوغ التجربة النفسية في رموزها الخاصة.
وبالرغم من أهمية الأسطورة باعتبارها وسيلة رمزية؛ كونها “بالأحرى يمكن قراءتها قراءة رمزية، فالآلهة أو الأشخاص الرئيسيون يرمزون إلى مفاهيم مجردة”(11)، إلا أن نجاح الشاعر في استغلالها فنيًّا، يحتاج إلى قدرة ومهارة قد لا تتيسر لأي شاعر. إذ يتوقف ذلك النجاح على حاجة القصيدة إليها أولًا، ومقدرة الشاعر على استيعابها والاقتناع بها، حتى تصير بعضًا من مشاعره وأخيلته، مع أهمية خضوعها لمنطق السياق الشعري، لا المنطقي.
الأسطورة في الشعر العربي المعاصر
عمد الشاعر العربي المعاصر ــ منذ بواكير التحديث في الشعر العربي ــ إلى توظيف الرمز الأسطوري في شعره؛ بفعل المثاقفة مع التجارب الشعرية الغربية.
وكانت الأساطير الإغريقية قد “دخلت إلى العربية على يد سليمان البستاني مترجم الإلياذة، وكان أبو شادي أول شاعر مصري يستخدم الأساطير الإغريقية والمصرية القديمة، ولكن معالجته للأسطورة كمعالجة معاصريه من أمثال شفيق المعلوف، لم تكن معالجة رمزية كما أصبحت في الخمسينات ولم تغنِ عنصر المعنى في القصيدة”(12). وكان بدر شاكر السياب من المبكرين في استخدام الأساطير، استخدامًا فنيًّا مبدعًا، وبخاصة في كيفية التناول والتوظيف، وفي الطريقة الذكية لاختيار رموزه، التي تضفي على التجربة الشعرية البعد الإنساني المطلوب. كما أن له ريادته في توظيفها في حركة الشعر الحر.
الأسطورة في الشعر اليمني المعاصر
امتدادًا إلى هذا الاتجاه التجديدي في الشعر العربي الحديث، وظّف الشاعر اليمني المعاصر الرمز الأسطوري. لذلك، كان لقصيدته نصيبٌ من هذا التوظيف؛ إذ استلهم فيها الشعراء اليمنيون المعاصرون عددًا من الرموز الأسطورية: محلية، وعربية، وعالمية.
- ينظر: نضال صالح، “النزوع الاسطوري في الرواية العربية المعاصرة”، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001م، ص: (12). ↩︎
- أوغُسْطين، القديس Saint Augustine (354 ـــ 430): لاهوتي وفيلسوف كاثوليكي. يعتبر كبير مفكري النصرانية في عهودها الأولى. اعتنق النصرانية عام386 ودافع عن الكنيسة دفاعًا قويًّا. حاول التوفيق بين الفكر الأفلاطوني وبين العقيدة النصرانية. أشهر آثاره سيرة حياة ذاتية عنوانها “اعترافات”، حوالي (عام400)، و”مدينة الله” (413ــــ 426). ↩︎
- ك. ك. راثقين، “الأسطورة”، ترجمة: جعفر صادق الخليلي، منشورات عويدات، ط1، بيروت، 1981م، ص: (9). ↩︎
- أنس داؤد “الأسطورة في الشعر العربي الحديث”، دار الجيل للطباعة، ط1، القاهرة، 1975م، ص: (12). ↩︎
- أمين سلامة، “الأساطير اليونانية والرومانية”، بدون، 1988م، ص: (10). ↩︎
- محمد عجينة، “موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها”، دار الفارابي، ط1، بيروت، 1994م، جـ1/ ص: (65). ↩︎
- نفسه، ص: (19). ↩︎
- تايلور، هو: تيلور، (إدوارد) Tylor (1832 ـ 1917): عالم بريطاني في أصل الأجناس البشرية، ولد في لندن. من أنصار مذهب النشوء والارتقاء. اهتم بالأساطير المقارنة، وبمذهب الحياتية، ودرس عرقيات عدة شعوب مكسيكية. ينظر: لويس معلوف، “المنجد في اللغة والأعلام”، دار المشرق، ط34، بيروت، 1994م، ص: (167). ↩︎
- نزار عيون السود، “نظريات الأسطورة”، مجلة عالم الفكر، الكويت، العدد: (24)، 1995م، ص: (214). ↩︎
- نفسه ↩︎
- طلال حرب، “أولية النص”، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، بيروت، 1999م، ص: (97). ↩︎
- سلمى الخضراء الجيوسي، “الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث”، ترجمة: عبد الواحد لؤلؤة، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت، 2001م، ص: (398). ↩︎