تصنيف الصورة الاستعارية
يتّسمَ تصنيف الصورة الاستعارية، بالتعدد والاختلاف، تبْعًا لاختلاف الرؤى النقدية في الاستعارة والصورة الاستعارية قديمةً وحديثة. واختلاف الزوايا المتعددة، التي نظر منها النقاد والباحثون إلى هذه التقنية الشعرية.
وعلى ذلك، فإن من أهم التصنيفات التي استوعبت مفهوم الصورة الاستعارية وأبعادها، تصنيفها إلى أربعة أصناف. هي: الصورة الاستعارية التشخيصية، والصورة الاستعارية التجسيمية، والصورة الاستعارية التجريدية، والصورة الاستعارية التجميدية.
[1ــ1] ــ الصورة الاستعارية التشخيصية
في الصدارة من آلية تصنيف الصورة الاستعارية، تأتي الصورة الاستعارية التشخيصية، التي تقوم على توظيف تقنية التشخيص.
وقد تناول عددٌ من النقاد واللغويين العرب القدماء التشخيص تناولًا مقتضبًا ــ وإن لم يسموه ــ من مثل الفراء (144ـــ207هـ)، حينما وقف أمام قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ﴾(1)، فقال: “يُقال: كيف يريد الجدار أن ينقض؟ “وذلك من كلام العرب أن يقولوا: الجدار يريد أن يسقط”(2). وبهذا، يكون الفرَّاء قد وضع يده على تشخيص الجماد.
ونضجت فكرة التشخيص في البلاغة العربية، عند عبد القاهر الجرجاني، حينما أشار إلى ذلك في حديثه عن بعض أدوار الاستعارة. قائلًا: “فإنك لترى بها الجماد حيًّا ناطقًا، والأعجمّ فصيحًا، والأجسام الخُرس مبينة، والمعاني الخفيّة بادية جليّة …”(3).
[1ــ2] ــ التشخيص أنْسَنةٌ وظاهرة أدبية وجدانية
يقوم التشخيص، على “نسبة صفات البشر إلى أفكار مجردة أو إلى أشياء لا توصف بالحياة”(4). فهو طريقة تصويرية “ترتفع فيها الأشياء إلى مرتبة الإنسان مستعيرة صفاته ومشاعره”(5). كما أنه خلعٌ للملامح الإنسانية، وصفاتها، وأفعالها على المعنويات والحسيات(6).
وإلى ذلك، فالتشخيص ظاهرةٌ “عامة في الأدب العاطفي في مختلف العصور والأمم. وقد أكثر الرومانسيون منها، وكان طابعها في أدبهم أصدق، وأكثر تنوعًا وأوسع مدى”(7).
[1ــ3] ــ التشخيص والعقائد القديمة
ضمن محاولات تفسير التشخيص، يرى بعض العلماء أنه من بقايا العقائد القديمة. التي كان يعتنقها ــ ولا يزال يعتنقها ــ كثيرٌ من القبائل البدائية، التي ترى أن الحياة تعمّ جميع الظواهر الطبيعية. فالقول بأن السماء تبكي، وأن الأرض تضحك، راجع ــ في نظر هؤلاء العلماء ــ إلى بقايا هذه العقيدة في أذهان الناس، ولو بصورة غير شعورية(8).
وحاول بعض الدارسين تفسير التشخيص، من خلال الرجوع إلى عهود الوثنية في تاريخ النفس، حين كان الاعتقاد أن الروح تثوي وراء كل شيء، وحين كان العقل الإنساني يحتضن الخرافات ويقتات الأساطير(9).
[1ــ4] ــ التفسير النفسي للتشخيص
يفسّر عبّاس العقاد التشخيص تفسيرًا نفسيًّا؛ فيرى أنه “يأتي بعد نشاط الوعي الداخلي؛ إذ لابد من شعور يسبق التشخيص ويلقي عليه ويبث فيه من حياته”(10). فمن خلال التشخيص تصل الذات إلى الشعور بأنها محور الكون. وتحاول التوحُّد مع كائناته. والإحساس بتعاطف مع تفاصيله، التي ترسمها على شكلها؛ فتفيض بمظاهر الحياة الإنسانية: من عواطف، واتصالات، وحركة مستمرة. أي أنها تحس وتعاني وتتألم، شريطة أن يأتي الشاعر بالتشخيص عفوًا لحظة الإبداع. فإذا جاء به متكلَّفًا فُقِدت الصورة المتخيلة، عن طريق المعنى الذهني والحال النفسية. وعن الحادث المحسوس والمشهد المنظور وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية. فيغدو التشخيص ــ حينئذٍ ــ تشخيصًا شعوريًّا مُتميّزًا عن قدرة التشخيص اللفظي، الذي هو حيلة لفظية تلجئنا إليها لوازم التعبير. ويوحي بها إلينا تداعي الفكر وتسلسل الخواطر(11).
وتأسيسًا على هذا الفهم النفسي للتداعي، فإن الصورة الاستعارية التشخيصية نتاج موهبة خالقة مقصودة. تكون عند أناس ولا تكون عند آخرين.
والصورة الاستعارية التشخيصية صورة عميقة الشعور، لا تخضع لمنطق التسلسل الفكري. ولا تستجيب للحيل اللفظية والقوالب التشبيهية الجاهزة، بل يمتزج كل عنصر فيها بتجربة الشاعر الشعورية، لتعكس فوق جمالها الفني وجمال الطبيعة الحال النفسية لشاعرها(12).
[1ــ5] ــ وظيفة التشخيص
على تعدد تفسيرات التشخيص، إلا أن “الشيء المهم الذي لابد من الإشارة إليه هو قدرته على التكثيف والإيجاز، وبناؤه صلات بين أطراف الصورة، لا تقف عند مجرد التشابه الحسي الملموس، وإنما تتجاوزه إلى العلاقات الدقيقة العميقة المتمثلة في تشابه الواقع النفسي والشعوري للطرفين المتشابهين”(13).
ووظيفة هذه العلاقات ــ في هذا السياق ــ هي “تجسيد الحقائق النفسية والشعورية والذهنية التي يريد الشاعر أن يعبر عنها”(14). وذلك، بأن يسقط آماله وآلامه على ما حوله من مظاهر الطبيعة، فيصير التشخيص صورة لآمال الشاعر ومخاوفه وأحزانه، منعكسة في الأشياء والأحياء من حوله(15)؛ إذ يحس بأنها “ذوات ناطقة وأشخاص متحركة فهو يعيش مع كل نسمة منها وكل خفقة وكأنها تستغويه وتستهويه”(16).
[2ــ1] ـــ الصورة الاستعارية التجسيمية
“التجسيم”، نسقٌ من أنساق تصنيف الصورة الاستعارية، ويعني إضفاء صفة المادة على ما هو مجرد. أو بكلمة أخرى، هو “الارتفاع بالمجرد إلى مرتبة الجسد المادي المحسوس”(17).
وهذا هو ما لمّح الجرجاني إلى فاعليته، بقوله: “إن شئت أراك المعاني اللطيفة التي هي من خبايا العقل كأنها قد جُسِّدت حتى رأتها العيون”(18)؛ حيث يتم تحويل المعنويات المجردة إلى حسيات، “لا على وجه التشبيه والتمثيل، بل على وجه التصيير والتحويل”(19)، في صور حسية تفوح بعبق المشاعر(20).
[2ــ2] ــ وظيفة “التجسيم”
التجسيم هو قسيم التشخيص، في تحقيق فاعلية الصورة. من خلال ذلك النقل الفني للأفكار والمفاهيم والمعنويات، التي تتجلى في كيان حسي يقربها إلى الأذهان، ويضيف إليها ما يوضحها. بل لا يمكن الحديث عن المعنويات والأفكار بدقة، ما لم تقترن بالمحسوسات(21)؛ لأن مثل هذا الاقتران يغني المعنويات، ويبرزها ويوسع من مدلولاتها.
ويبرز دور الشاعر في انتقاء الصور التجسيمية، بما يعزز سماتٍ أراد أن يبرزها في الصورة، هادفًا إلى مفاجأة القارئ، بما لا يتوقعه من هذا الاقتران غير المألوف، بين المادة من جانب، وعالم المجردات الرحب من جانب آخر؛ لخلق الاستجابة عند القارئ للفكرة، التي يريد الشاعر أن يمررها عبر التجسيد، الذي عمل على تطورها من واقع الخفاء المعنوي إلى مثالية الظهور المادي(22).
[3ــ1] ـــ الصورة الاستعارية التجريدية
يقوم هذا النوع من التصوير الاستعاري على تحويل المحسوسات من المجال المادي ــ الذي هو طبيعتها ــ إلى مجال معنوي هو من ابتكار الشاعر(23).
ويلجأ الشاعر إلى هذا النسق التصويري، حينما يريد “تشبيه المحسوس بالمعقول، أو المعقول بالمعقول. فالشيء المادي المحسوس قد يقارن بفكرة ذهنية مجردة، كما أن الفكرة الذهنية المجردة قد تقارن بفكرة أكثر وضوحًا”(24).
وتعد الصورة الاستعارية التجريدية سمةً “من سمات التعبير الشعري عند شعراء الاتجاه الرومانسي ومن تبعهم من شعراء التجديد في الشعر العربي الجديد”(25).
[3ــ2] ــ أنماط الصورة الاستعارية التجريدية
تنقسم الصورة الاستعارية التجريدية على محاور، كأن يتم تجريد الإنسان من ماهيته المحسوسة إلى معنى ذهني. وتجريد الجمادات، والانتقال بها من واقعها المادي وخصائص حسيتها، إلى واقعٍ ذهني. وتجريد المعنى من ماهيته الفكرية المجبول عليها، إلى معنىً آخر مرتبط بماهية فكرية مغايرة. وكذلك هو تجريد الزمن، والانتقال به من طبيعته إلى طبيعة ذهنية.
[4] ـــ الصورة الاستعارية التجميدية
في هذا السياق من تصنيف الصورة الاستعارية، تأتي الصورة الاستعارية التجميدية. والتجميد في التصوير الفني، نسقٌ فني تصويريٌّ رمزِيٌّ، مثله مثل تقنيتي التّشْخيْص، والتَّجْسِيْم، على اختلافه عنهما، في انتزاعه الحياة من الكائن الحيِّ وتقديمه مادةً جامدةً(26).
وتأتي الصورة الاستعارية التجميدية، على نمطين، صورة استعارية تجميدية كلية، وصورة استعارية تجميدية جزئية. والفرق بينهما أن الكلية تقوم على سلب حياة الكائن الحي سلبًا مطلقًا، بينما تقوم الأخرى على نزع حياة جزء أو عضو من أعضائه.
- سورة الكهف، الآية: (77). ↩︎
- وجدان الصائغ, “الصور الاستعارية في الشعر العربي الحديث”, المؤسسة العربية، بيروت, ط1، 2003م, ص:(39). ↩︎
- عبد القاهر الجرجاني، “أسرار البلاغة”، قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر، مطبعة المدني ـــ القاهرة، دار المدني ـــ جدة، 1412هـ ـــ 1991م، ص: (43). ↩︎
- علية عزت، “معجم المصطلحات اللغوية والأدبية”، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، 1994م، ص: (112). ↩︎
- يُنظر: جبور عبد النور، “المعجم الأدبي”، دار العلم للملايين، ط2، بيروت، 1979م، ص: (67). ↩︎
- صاحب خليل إبراهيم، “الصورة السمعية في الشعر العربي قبل الإسلام”، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2000م، ص: (258). ↩︎
- يوسف أبو العدوس، “الاستعارة في النقد الأدبي الحديث، الأبعاد المعرفية والجمالية”، الأهلية للنشر والتوزيع، ط1، عمان، 1997م، ص: (238). ↩︎
- .يُنظر: أبو القاسم الشابي، “الخيال الشعري عند العرب”، الدار التونسية للنشر، تونس، 1983م، ص: (19،18). ↩︎
- يُنظر: إبراهيم عبد القادر المازني، “حصاد الهشيم”، دار الشروق، بيروت، 1976م، ص: (202). ↩︎
- عباس العقاد، “ابن الرومي، حياته من شعره”، المكتبة العصرية، بيروت، 1982م، ص: (256). ↩︎
- نفسه، ص: (255). ↩︎
- نفسه. ↩︎
- يوسف أبو العدوس، “الاستعارة في النقد الأدبي الحديث”، مرجع سابق، ص: (140). ↩︎
- نفسه. ↩︎
- .يُنظر: وجدان الصائغ، “الصورة الاستعارية في الشعر العربي الحديث”، مرجع سابق، ص: (39). ↩︎
- عباس محمود العقاد، “ابن الرومي حياته من شعره”، مرجع سابق، ص: (255). ↩︎
- عبد القادر الرباعي، “الصورة الفنية في شعر زهير بن أبي سلمى”، دار العلوم للطباعة والنشر، الرياض، 1984م، ص: (177). ↩︎
- عبد القاهر الجرجاني، “أسرار البلاغة”، مرجع سابق، ص: (43). ↩︎
- سيد قطب، “التصوير الفني في القرآن”، دار الشروق، ط16، القاهرة، 1423هــ ــ 2002م، ص: (79). ↩︎
- يُنظر: أحمد محمود خليل، “في النقد الجمالي (رؤية في الشعر الجاهلي)”، دار الفكر ـ دمشق، دار الفكر المعاصر ـ بيروت، ط1، 1417هـ ــ 1996م، ص: (272). ↩︎
- يُنظر: وجدان الصائغ، “الصورة الاستعارية في الشعر العربي الحديث”، مرجع سابق، ص: (79). ↩︎
- نفسه. ↩︎
- يُنظر: أحمد هيكل، “تطور الأدب الحديث في مصر”، دار المعارف، ط5، القاهرة، 1987م، ص: (334). ↩︎
- عبد الفتاح عثمان، “دراسات في النقد الحديث”، مكتبة الشباب، ط1، القاهرة، 1991م، ص: (23). ↩︎
- أحمد قاسم الزمر، “ظواهر أسلوبية في الشعر الحديث في اليمن”، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 1425هـ ـــ 2004م، ص: (227). ومن ذلك قول الشاعر الرومانسي محمود حسن، في وصف شمعة:
كأنها والدجى يلهو بها ** أمنيةٌ في يأسها فانيةْ ↩︎ - زينب فؤاد عبد الكريم، “الصورة الفنية عند عبيد الشعر حتى العصر الأموي”، أطروحة دكتوراه (غير منشورة)، جامعة القاهرة ــ كلية دار العلوم، 1996م، ص: (315). ↩︎