المحكية اليمنية نماذج من دراساتها التاريخية في الصرف والدلالة

المحكية اليمنية نماذج من دراساتها التاريخية في الصرف والدلالة

المحكية اليمنية نماذج من دراساتها التاريخية في الصرف والدلالة

د. عبده منصور المحمودي

تتشكل البنية اللغوية في المحكية من خصائص وسمات متعددة، ذات جذور ثابتة في التاريخ لا سيما القديم منه؛ إذ تمتد إلى الحاضر المعيش بحيويتها الملموسة فيه. ومن خلال آلية البحث اللغوي التاريخي، يمكن الوقوف على جذور بعضٍ من هذه الخصائص، ومحطات التحوّل التي طرأتْ عليها في أزمنة مختلفة. ذلك، هو ما نجده في بعضٍ من اشتغالات الأستاذ الدكتور عباس السوسوة، في سياق اهتمامه بالدرس اللغوي التاريخي. من مثل تأصيله التاريخي لـ “الذي” في المحكية اليمنية، وتأصيله لعددٍ من الألفاظ المنتمية إلى هذه المحكية.

[1]: (الذي) في المحكية اليمنية، تأصيل تاريخي

في بحثه الموسوم، بـ “الذي في المحكية اليمنية، تأصيل تاريخي”، أصل الدكتور عباس السوسوة لظاهرة لغوية صرفية معاصرة في المحكية اليمنية، تتمثّل في استعمال “الذي” فيها “للمفرد المذكر والمفرد المؤنث، والجمع المذكر والجمع المؤنث”(1).

وذهب دارسًا هذه الظاهرة، ومؤصلًا لها. فأورد أربعة شواهد من الشعر الجاهلي مستشهدًا بها لمجيء “الذي” للجمع المذكر، أَوّلُها ما نقله “إمام النحو سيبويه (ت180هـ) عن الشاعر الجاهلي أشهب بن رميلة(2):

وإن الذي حانت بفلجٍ دماؤهم ** هم القوم كل القومِ يا أم خالدِ

ثم يستشهد من القرآن الكريم، بقوله تعالى:

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ)(3).

 ويتبع هذه الآية ببعضٍ من أقوال المفسرين فيها وتأويلاتهم لها(4).

ويصل من خلال هذه الشواهد، إلى “أن القرآن الكريم، ومن قبله الشعر الجاهلي قد استعملا (الذي) على قلة للمفرد والجمع”(5). كما يشير إلى خلو التراث العربي ــ بعدئذٍ ــ من هذا الاستعمال؛ فهذا التراث “لا يسعفنا بعد ذلك بشواهد على هذا الاستعمال”(6). ويذكر أن هذا التراث عاد إلى ذلك، بعد ذاك الانقطاع؛ فهناك “عودة إلى تعميم استخدام (الذي) مع اختلاف العدد والجنس إفرادًا وجمعًا عند المؤرخين ابتداءً من القرن الثامن الهجري إلى القرن الرابع عشر الهجري”(7)، ويرجح أن يكون سبب هذا التعميم “غلبة العامية على هؤلاء أو ضعف ثقافتهم النحوية”(8).

ثم يتتبع هذا الاستعمال، مستهلًا ذلك بشاهدٍ لنائب السلطنة في مصر، بيبرس المنصوري (ت725هـ)، “فنجد عنده (الذي) محل (التي): “(…) وما أجراه الله له ولهم من الفتوح الجسيمة والوقائع العظيمة، والسعود الذي جنوا منها ثمر المنى والهمم””(9).

ويمضي في إيراد الشواهد، حتى يصل إلى المؤرخ عيسى بن لطف بن المطهر (ت1048هـ)، فيستشهد لهذه الظاهرة بنصين منسوبين إليه. الثاني منهما: “دخلها فرحات بتلك الجموع الذي تذهب عن المقلة الهجوع”(10).

ويصل بعد هذا التأصيل للظاهرة، إلى العامية اليمنية، فيورد شواهد شعرية ونثرية. منها ما وجده “عند الخفنجي(11) (ت1180هـ)، في أكثر من موضع في ديوانه(12):

ولا الذي زادهم طيب الرقاد ** يحكي سمير النجوم السارية

ومن شواهده، الشاهد الذي يعود إلى القرن الثالث عشر الهجري، إذ جاءت “الذي”، في حوليات النعمي بمعنى (الذين): “فدلهم واحدٌ من أهل البحر من الذي لا خير فيهم (…) والحال أن الذي ماتوا في وسط البحر قدر أربعمئة نفس”(13).

وبذلك؛ فقد شمل السوسوة بتوجهه التاريخي، دراسة ظواهر صرفية في اللغة المحكية؛ فدرس أكثر من ظاهرة صرفية. من ذلك ما مرّ في تأصيله تاريخيًّا لـ “الذي” في المحكية اليمنية. كذلك ما ورد في القسم الثاني، من كتابه “دراسات في المحكية اليمنية”، إذ أرَّخ لوزني “فِعَّال” و”تِفعّال” في المحكية اليمنية. ومثل ذلك، هي دراسته التاريخية لصيغة الجمع “فعيل” في المحكية اليمنية أيضًا(14).

وفي دراسة السوسوة للظواهر الصرفية تاريخيًّا في المحكية اليمنية، لا ينطلق من تخطئة المصوبين اللغويين للظاهرة؛ ذلك لأن تصويبات المصوبين اللغويين، لا تهتم بأخطاء المحكية. على أن السوسوة يرى أن الخطأ والصواب، ليس مقصورًا على الفصحى وحدها، بل يشمل المحكية(15). لذلك؛ فهو ينطلق من ملاحظته للظاهرة. ثم يذهب في دراستها والتأصيل لها تاريخيًّا، مستهلًا ذلك باستعراضٍ لآراء وأقوال علماء اللغة فيها. ثم يتتبع مواضع وجودها في مصنفات الكتّاب ومؤلفاتهم، عبر أزمنةٍ مختلفة وصولًا إلى استعمالها المعاصر في اللغة العامية المعاصرة.

[2]: تأصيل ألفاظ محكية يمنية

في مواضع من دراسات السوسوة اللغوية التاريخية، تناول ظواهر لغوية، في مجال الدلالة والمعجم، فأصَّلَ تاريخيًّا لدلالة عددٍ من ألفاظ المحكية اليمنية، في فتراتٍ زمنيةٍ متعاقبة، منها الألفاظ: “مقشامة”، و”مقهاية”، و”بيسة”.

[2ــ1]: “مقشامة” في المحكية الينية          

يقف السوسوة عند لفظ “مقشامة”، في المحكية اليمنية، فيبدأ بتوصيف دلالته فيها، بأنه “مزرعة للخضروات المنزلية تكون بجوار مسجد، تزرع الكراث والخس والكزبرة…”(16).

ثم يؤصل لهذه اللفظة من “المعجم السبئي”، فهي فيه بمعنى “ق ش م ت:  مبقلة، موضع زراعة بقول أو خضار”(17). ثم يذكر دلالتها في المعجم العربي القديم، فيقول: “أما في المعجم العربي القديم فدلالة المادة مبعثرة “فالقشم: اللحم المحمر من شدة النضج، والبسر الأبيض الذي يؤكل قبل أن يدرك وهو حلو””(18).

ويرصد التطور الدلالي، الذي طرأ على هذا اللفظ، حيث تتسع دلالته، ليؤديَ دلالة اجتماعية ذات ارتباطٍ بالدلالة السابقة، فيقول:

“ومن هذه اللفظة ـ (ق ش م ت) ـ اشتقت لفظة القشّام في كثير من المناطق لا للدلالة على من كانت حرفته العمل في (المقشامة) والمقاشم فقط، بل تعدت ذلك إلى الدلالة على الأصل الوضيع اجتماعيًّا”(19).

[2ــ2]: “مقهاية” في المحكية اليمنية

يؤصل الدكتور عباس السوسوة للفظ المحكي في اليمن “مقهاية”، الذي صار يعني “المكان الذي تباع فيه المشروبات الساخنة والمرطبات”(20). بعد أن كان قديمًا “أشبه شيء بفندق متواضع لنزول المسافرين فيها، وكان المشروب الذي يقدم للزبائن فيها قهوة قشر البن أو البن نفسه”(21).

يتجلى هنا الرصد لتطوّر دلاليٍّ للفظ، إذ كان قديمًا بمنزلة الفندق، مع شمول فرعٍ دلاليٍّ آخر، مرتبط بما يقدم في هذا الفندق ــ القهوة ــ حتى تطورت دلالته ليعني مكانًا تباع فيه منتجات معاصرة، تشمل المشروبات الساخنة والمرطبات، أيًّا كان نوعها. وهذا رصدٌ لتغيير دلالي، متمثلِ في انتقال الدلالة من الخاص إلى العام، فيقع توسع المعنى أو امتداده عندما يحدث الانتقال من معنى خاص إلى معنى عام(22). وهو ما يحيل على “تعميم الدلالة”، بحسب تسمية إبراهيم أنيس لهذا التغير(23)؛ فبعد أن كانت “المقهاية” دالة على مكان القهوة فقط، صارت تدل على كل ما يشرب فيها ساخنًا كالقهوة وغيرها، أو باردًا كالمشروبات الغازية المعروفة.

[2ــ3]: “بيسة” في المحكية اليمنية

من ألفاظ المحكية اليمنية، التي رصد الدكتور عباس السوسوة تطورها التاريخي وانتقالها من معنى إلى آخر، اللفظ “بيسة”. إذ تمثّل الانتقال فيها من الدلالة المادية إلى الدلالة المعنوية: “بيسة: كانت في المحكية عملة معدنية صغيرة الحجم والقيمة… ولم تكن هذه تسميتها الرسمية فالتسمية الرسمية نصف بقشة، حين كان الريال يساوي أربعين بقشة”(24). وانتقلت إلى الدلالة على مدلولٍ آخر في المحكية اليمنية المعاصرة، إذ تستخدم “للدلالة على النفي. فإذا قال شخص: “”والله ما معي بيسة” فإنه يعني نفي وجود النقود مطلقًا”(25). وهنا يتجلّى التغيّر الدلاليّ إلى الضد؛ فمن الوجود إلى العدم، بحيث انتقلت دلالة اللفظ من الدلالة على وجود النقود، إلى الدلالة على عدم وجودها.

[2ــ4]: دراسة الدلالة بين المحكية والفصحى

المُلاحَظ على دراسة السوسوة التاريخية لمجال الدلالة، في المحكية، اقتصاره على المحكية اليمنية، كما يُلاحظ عدم تتبعه التاريخي المستقصي لدلالةٍ ما. أما اقتصاره على المحكية اليمنية؛ فلأن كل بلدٍ له خصوصية لغوية محلية متعارف عليها بين أبناء مجتمعه. علاوة على الفروق الجزئية الداخلية، التي تميز لهجة كل منطقة من مناطق هذا البلد عن غيرها من المناطق والبقاع الجغرافية. كذلك تميُّز كل فئةٍ من فئاته الاجتماعية، بلهجاتٍ مختلفة بعض اختلافٍ ــ وإن كان جزئيًّا ــ  وهذا يعني اتساع مضمار الدراسة؛ فلكل بلدٍ لهجته، التي تتفرع إلى لهجاتٍ جزئية متشعبة. وهذا الأمر يستعصي على باحثٍ وحده القيام به.

أمّا عدم التتبع التاريخي؛ فذلك لقلة التدوين بالمحكية؛ فليس هناك قوانين لغوية وقواعد مدونة لها، وإنما تتطور وتتغير؛ وفقًا لمقتضيات الحياة وتداعياتها المختلفة. لكن الأمر في الفصحى مختلف؛ ذلك للاتفاق الحاصل حول القواعد اللغوية الأساسية العامة للغة. وبهذا تكون الكتابات بها؛ وفقًا لقواعدها المتفق عليها. وبالتالي إمكانية دراسة ظاهرة أو أكثر من ظواهرها اللغوية، وتتبعها ورصد التمظهرات التطورية والتطويرية الطارئة عليها، وتأصيلها في تراثها الكتابي.

  1. عباس علي السوسوة، “الذي في المحكية اليمنية، تأصيل تاريخي”. مجلة المعرفة، اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، تعز، العدد (36 ــ 37) أكتوبر ــ  ديسمبر 2002م، ص: (10،9). ↩︎
  2. نفسه، ص: (10). وانظر: “الكتاب”. تحقيق: عبد السلام محمد هارون. ط2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1973 ــ 1979م،  جـ1/ ص: (176ـ187). ↩︎
  3. سورة البقرة، الآية: (17). ↩︎
  4. انظر: عباس السوسوة، “الذي في المحكية اليمنية”. مجلة المعرفة، مرجع سابق، ص: (11). ↩︎
  5. نفسه. ↩︎
  6. نفسه. ↩︎
  7. نفسه، ص: (12). ↩︎
  8. نفسه. ↩︎
  9. نفسه. وانظر: بيبرس المنصوري، “التحفة المملوكية في الدولة التركية (تاريخ دولة المماليك البحرية في الفترة من (648ـ711هـ)”. تحقيق: عبد الحميد صالح حمدان. الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 1987م، ص: (24). ↩︎
  10. نفسه. ص: (13)، وانظر: عيسى بن لطف بن المطهر بن شرف الدين، “روح الروح فيما جرى بعد المئة التاسعة من الفتن والفتوح”. وزارة الإعلام، صنعاء، 1981م، جـ1/ ص: (59). ↩︎
  11. الخفنجي، هو: علي بن الحسن بن علي بن الحسين القاسم الخفنجي، شاعر ساخر كثير المرح وافر الظرف والدعابة. ↩︎
  12. عباس السوسوة، “الذي في المحكية اليمنية، تأصيل تاريخي”. مجلة المعرفة، مرجع سابق، ص: (13). ↩︎
  13. نفسه. ↩︎
  14. انظر: عباس علي السوسوة، “دراسات في المحكية اليمنية”. ط2، مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، 1428هـ ــ 2007م، ص: (82 ــ 98)، (99 ــ 113). ↩︎
  15. نفسه، ص: (72،71). ↩︎
  16. نفسه، ص: (127). ↩︎
  17. نفسه. وانظر: بيستون وآخرون، “المعجم السبئي، بالإنجليزية والفرنسية والعربية”. مكتبة لبنان، بيروت، 1982م،  ص: (108). ↩︎
  18. نفسه، ص: (128،127). وانظر:
    ــ ابن منظور، “لسان العرب”. تحقيق: عبد الله علي الكبير، ومحمد أحمد حسب الله، وهاشم محمد الشاذلي، ورمضان سيد أحمد. دار المعارف، القاهرة، 1981ـ1987م، مادة: (قشم)، ص: (3639).
    ــ محمد مرتضى الزبيدي، “تاج العروس”. المطبعة الخيرية، القاهرة، 1305ـ1307هـ ، جـ9/ ص: (82). ↩︎
  19. نفسه، ص: (127). ↩︎
  20. نفسه، ص: (128). ↩︎
  21. نفسه. ↩︎
  22. أحمد مختار عمر، “علم الدلالة”. ط4، عالم الكتب، القاهرة، 1993م، ص: (243). ↩︎
  23. إبراهيم أنيس، “دلالة الألفاظ”. ط3، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1972م، ص: (154). ↩︎
  24. عباس علي السوسوة، “دراسات في المحكية اليمنية”. مرجع سابق، ص: (160). ↩︎
  25. نفسه. ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *