المنهج والدراسات اللغوية
يأتي الميدان اللغوي، في صدارة الميادين العلمية التي اتخذت من المنهج مسارَ بحثٍ وتحليل ودراسة. بدءًا من ارتباطه بالمنطق والفلسفة، مرورًا بما أفضى إليه هذا الارتباط، من تفاصيل منهجية في الدراسات اللغوية القديمة، وصولًا إلى علم اللغة الحديث.
[1]: ارتباط الدرس اللغوي بالمنطق والفلسفة
إذا كان المنهج ــ في بداياته ــ قد ارتبط بالمنطق والفلسفة، فإن منهج الدرس اللغوي ــ منه بوجه خاص ــ قد ارتبط بالمنطق ارتباطًا وثيقًا، منذ البداية الفكرية الفلسفية عند اليونان. وهو ما يشير إليه عبد الرحمن بدوي، بالقول: “إن نشأة المنطق مرتبطة بالنحو. فقد بدأت البذور الأولى للمنطق في اليونان في أبحاث السوفسطائية الخاصة باللغة والخطابة والنحو بوجهٍ أخص”(1).
وكان هذا الارتباط نفسه، هو السائد عند الرواقيين(2). إذ يتضح اهتمامهم بالدراسة اللغوية والنحوية بوجهٍ خاص. فهذا (روبنز) يقول عن ذلك: “إننا نستطيع أن نجد عند الرواقيين مصطلح (نحو) بمعناه الحديث للمرة الأولى”(3). ويقول (جون لايونز): “لقد كانت اللغة محورًا للفلسفة الرواقية وبخاصة ما أسموه بالمنطق”(4).
واستمر هذا الارتباط بين اللغة والمنطق، حتى ظهرت فكرة “النحو العالمي”، في القرن الثالث عشر، على يد (روجر بيكون). ومضمون هذه الفكرة، “أن مبادئ النحو في جوهرها واحدة بالنسبة لجميع اللغات ولكنها قد تختلف في التفاصيل بين لغة وأخرى”(5).
وبدأت الدراسات اللغوية في العصور الحديثة تتجه اتجاهًا مغايرًا رافضًا للتفكير المنطقي في مجال البحث اللغوي، حيث يدعو هذا الاتجاه إلى الاهتمام بالواقع الحي للغة. ولكن بظهور مدرسة “النحو التوليدي التحويلي” على يد (نعوم تشومسكي)(6) “اتجهت الدراسات اللغوية من جديد نحو العناية بالجوانب المنطقية في اللغة، ونحو تقدير دور العقل في العملية اللغوية”(7).
[2]: الدراسات اللغوية عند القدماء
اللغة والإنسان والحياة ثلاثي لا يمكن الفصل بين أجزائه، فاللغة مـرتبطة بالإنسـان منذ بدايات وجوده. وهو واعٍ بها ومدرك لدورها في حياته الاجتماعية والوجودية. وعلى ذلك، فإنه لم يظهر اهتمامه بدراستها والحفاظ عليها منذ البداية. وذلك؛ لاهتمامه بأولوياتٍ أخرى، تضمن استمرار بقائه على قيد الحياة.
لكن بعد أن مر الإنسان بمراحل حياتية مختلفة. وبعد أن بدأت حياته تتجه نحو التحضر والتمدن، بدأ اهتمامه باللغة. فكان أول ما قام به هو الحفاظ على هذه اللغة بتدوينها. وكانت هذه البداية في مصر والعراق؛ فالمصريون القدماء قد ابتكروا الكتابة الهيروغليفية المصورة، التي تطورت فيما بعد إلى الكتابة المقطعية، وانتقلت إلى الفينيقيين، ومنهم وصلت إلى الأمم الأخرى. وكذلك هم البابليون والآشوريون، الذين ابتكروا الخط المسماري، ومن خلاله أرخوا لحضاراتهم وثقافاتهم، عام 1600 ق.م؛ تخليدًا لهذا الخط، وحفظًا له من الضياع (8).
[2ــ1]: الهنود واليونان
تنامى اهتمام الإنسان بلغته: ابتداءً من الهنود، فاليونان، وانتهاءً بعصرنا الحديث. فالهنود لديهم اللغة “السنسكريتية” (اللغة الهندية القديمة). التي قدمت في القرن السابع قبل الميلاد “إنجازات علمية للدرس اللغوي، وذلك لارتباط اللغة عندهم بكتابهم المقدس (الفيدا) مما أدى إلى اهتمامهم باللغة اهتمامًا كبيرًا؛ ليتمكنوا من تفسير كتابهم، والإحاطة بمعانيه، والوقوف على دقائقه”(9).
وقد تجلى اهتمام الهنود بالدرس اللغوي، من خلال معالجتهم بعض مسائل اللغة العامة. من مثل: نشأة اللغة، وحقيقة المقطع، واهتمامهم بوصف أصوات السنسكريتية بعيدًا عن التعليلات المنطقية والفلسفية، وحديثهم عن الاشتقاق. وما أتى به في القرن الرابع قبل الميلاد رأس القواعديين العالم الهندي (بانيني)، من تقسيم للمفردات على: الأسماء، والأفعال، وحروف الجر، والأدوات(10).
ومثل الهنود، كان لليونانيين باعهم في الدرس اللغوي؛ فاليونان معروف عنهم الزخم الثقافي والفلسفي، الذي كان سائدًا في بيئتهم، وكان له دوره في تكوين اللبنات الأولى لمدنهم الحضرية. كما كان مجتمعهم ذا نظرة دينية متحررة نسبيًّا. وبذلك، كان لهذه المناخات الثقافية دورها الفاعل في توليد اهتمامهم الحي باللغة. إذ “تجاوزت بحوثهم اللسانية الحدود الضيقة للأهداف العملية الخالصة، وصارت جزءًا من مجال البحث الفلسفي الخصب الذي كان الفكر الهيليني شديد الميل إليه. وقد ارتكزت الأفكار الأساسية الأولى عن الفصائل اللغوية والأسس التي حكمت تركيب الجمل، والارتباط الواقع بين الفكر وعمليات الكلام، على أساس من هذا الاهتمام اللساني الذي انبثق في إطار الدراسات الفلسفية”(11).
وبذلك، كان للفلسفة والمنطق مكانهما، في توجيه دراسات اليونانيين للغة؛ إذ قامت هذه الدراسات “على أسسٍ منطقية، وكانت تنقصها الطريقة العلمية ومنفصلة عن اللغة نفسها، وقد كان هدفها الوحيد وضع قواعد للتمييز بين التراكيب الصحيحة والخاطئة”(12).
[2ــ2]: الرومان والسريان والعبرانيون
تَمَثَّلَ الرومان الثقافة اليونانية والفكر اليوناني. بما في ذلك الفكر اللغوي، مع بعض الإشارات التي أضافوها إلى جهود اليونانيين في الدرس اللغوي(13).
وامتد تأثير الفكر اليوناني إلى السريان، الذين تأثروا بهذا الفكر. لاسيما ما يتعلق منه بالفكر اللغوي والدراسات اللغوية. إذ “تأثر السريانيون بالفكر اليوناني وحاولوا تقليده من خلال الترجمات السريانية لأهم المؤلفات اليونانية، كما نُقل فكر اليونان بما فيه من تأثيرات فلسفية ومنطقية إلى السريانية”(14).
وعند العبرانيين، ازدهرت الدراسات اللغوية بعد ظهور الإسلام. إذ تأثروا بالفكر اللغوي العربي. واهتموا بلغتهم، فوضعوا لها المؤلفات، معتمدين على النموذج العربي؛ خوفًا عليها من الضياع(15].
[2ــ3]: الدرس اللغوي القديم عند العرب
كان للعرب دورهم في الدرس اللغوي القديم. إذ اهتموا بلغتهم؛ فدونوها. ووضعوا لها القواعد. ذلك؛ لأن أمة العرب أمة دينية متدينة. ومعروف أن الأمم المتدينة تكون أكثر اهتمامًا بلغتها للحفاظ على مقدساتها، والقدرة على فهم كتبها المقدسة وتفسيرها. ذلك؛ لأن كل عقيدة يسود فيها دور اجتماعي بعيد المدى، تعمل على تعزيز معرفة الناس بلغة الطقوس الدينية، لا سيما في شكلها الذي سُجلت به اللغة في نصوصهم الدينية(16).
وقد أفضى اهتمام العرب بلغتهم، إلى عدد من إسهاماتهم في الدرس اللغوي. إذ اعتنوا بالقضايا العامة في اللغة. من مثل: نشأة اللغة وخصائص العربية، وجمع المفردات. وظهرت من خلال ذلك، المصنفات، مثل: “العين” للفراهيدي، و”المخصص” لابن سيدة، و”اللسان” لابن منظور، و”تاج العروس” للزبيدي… كما اعتنى العرب بالجانب الصوتي، فجاء معجم “العين”، للخليل بن أحمد الفراهيدي. وبعده سيبويه. ثم النظرية الكاملة في علم الأصوات، التي احتواها كتاب “الخصائص وسر صناعة الإعراب”، لابن جني. كذلك، كان لهم إسهامهم الواضح في النحو، لا سيما ما ظهر من ذلك، في “الكتاب”. لسيبويه.
وبذلك، كان للعرب إسهامهم، في الدراسات اللغوية: صرفية، ونحوية، ودلالية، وصوتية. مثلهم مثل غيرهم من الأمم والشعوب في الاهتمام بلغتهم؛ من أجل فهم وتفسير كتابهم المقدس، ومعرفة ما فيه من مسارات تعبدية وتشريعية.
[3]” علم اللغة الحديث
استمرت النظرة إلى اللغتين: اللاتينية واليونانية، نظرة طوباوية. بمعنى أنهما لغتان مثاليتان، تمثلان الطريق للارتقاء الاجتماعي. لذلك؛ دُرِسَتا من حيث كونهما لغتين مكتوبتين لا منطوقتين. وبذلك؛ ظل المنهج المعياري هو السائد في الدراسات الغربية حتى القرن الثامن عشر(17).
ثم ظهرت في القرن الثامن عشر البداية الأولى لعلم اللغة الحديث. إذ مثل الاطلاع على الثقافة الهندية واللغة “السنسكريتية” ــ في إطار هذه الثقافة ــ البداية الأولى لظهور هذا العلم؛ فقد “كان الكشف عن اللغة السنسكريتية Sanscrit، وحل رموزها في سنة 1786م على يد (السير وليام جونز)(18) الإنجليزي الذي كان يقيم حينذاك في الهند شهادة الميلاد الحقيقية لعلم اللغة الحديث”(19).
وبعد هذا الاكتشاف، اتسعت الدراسة اللغوية وتفرعت إلى مناهج مختلفة. وبدأ العلماء “يبحثون اللغة بمناهج مختلفة مستمدة كلها من طبيعة اللغة نفسها، فاستخدموا أولًا المنهج المقارن، ثم التاريخي ثم سلطوا على البحوث اللغوية أضواء المنهج الوصفي”(20).
وبذلك، صار للغة علم مستقل بذاته، له مكانه بين العلوم. ماهيته قائمة على أنه “العلم الذي يبحث في اللغة ويتخذها موضوعًا له، فيدرسها من النواحي الوصفية والتاريخية والمقارنة، كما يدرس العلاقات الكائنة بين اللغات المختلفة، أو بين مجموعةٍ من هذه اللغات، ويدرس وظائف اللغة وأساليبها المتعددة، وعلاقتها بالنظم الاجتماعية المختلفة”(21). وميدان هذا العلم هو اللغة نفسها. وبذلك؛ فإن “علم اللغة يعالج قضايا اللغة مجردة عن الارتباط بأية لغة من اللغات”(22).
وقد تفرع هذا العلم إلى مناهج مختلفة؛ على اعتبار أن كل علمٍ تنبع منه مناهجه الخاصة، التي تتناسب مع خصوصيته وتفريعاته. فكانت أبرز مناهج هذا العلم، هي: المنهج التاريخي، والمنهج الوصفي، والمنهج المقارن، والمنهج التقابلي.
- محيي الدين محسب، “في علاقة المنطق بالدرس اللغوي في التراث العربي”. مجلة جذور، إصدارات النادي الأدبي الثقافي بجدة، العدد (22)، المجلد (10)، ذو القعدة 1426هـ ـ ديسمبر 2005م، ص: (48). ↩︎
- الرواقية: إحدى الفلسفات التي شاعت في الفترة الهيلنستية ـ الرومانية، أسسها (زينون)، في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد. وتستمد اسمها من “الرواق”، وهو بهو ذو أعمدة، حيث كان يعلم في أثينا، ومن أهم أعلامها: (كريسبوس)، و(سنيكا)، و(ابيكتيتوس). ↩︎
- محيي الدين محسب، “في علاقة المنطق بالدرس اللغوي في التراث العربي”. مجلة جذور، مرجع سابق، ص: (49). ↩︎
- نفسه. ↩︎
- نفسه، ص: (50). ↩︎
- هو نُوَّم تشومسكي Naom Chomsky، من مواليد عام 1928م، في فلادلفيا، كان أبوه حاخامَا وأستاذَا في تاريخ اللغة العبرية. وقد تأثر به عندما كان يراجع له بعض مؤلفاته، تعلم في جامعة بنسلفانيا، فدرس الرياضيات والفلسفة، وحصل على درجة الدكتوراه عام 1955م. عمل محاضرًا في معهد (ماساتشوستيس). وهو من أعمدة النظرية التحويلية، التي أثبتها في النحو من خلال كتبه وفي مقدمتها كتابه “البنى النحوية”، الذي نُشر عام 1957م. ثم كتابه “أوجه النظرية النحوية”. وغير ذلك، من أبحاثه ومؤلفاته، التي تدور جميعها حول النظرية التحويلية. يُنظر: جفري سامسون، “مدارس اللسانيات، التسابق والتطور”. ترجمة: محمد زياد كبة. طبعة جامعة الملك سعود، الرياض، 1417هـ، ص: (136،135). ↩︎
- محيي الدين محسب، “في علاقة المنطق بالدرس اللغوي في التراث العربي”. مجلة جذور، مرجع سابق، ص: (51). ↩︎
- ر.هـ. روبنز، “موجز تاريخ علم اللغة في الغرب”. ترجمة، أحمد عوض. سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد (227)، نوفمبر 1997م، ص: (32،31). ↩︎
- نادية رمضان النجار، “فصول في الدرس اللغوي بين القدماء والمحدثين”. ط1، دار الوفاء، الإسكندرية، 2006م، ص: (38). ↩︎
- نفسه، ص: (40،39،38). ↩︎
- ميلكا إفيتش، “اتجاهات البحث اللساني”. ترجمة: سعد عبد العزيز مصلوح، ووفاء كامل فايد. المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، د.ت، ص: (6). ↩︎
- فرديناند دي سوسير، “فصول في علم اللغة العام”. ترجمة: أحمد نعيم الكراعين. دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1985م، ص: (17). ↩︎
- انظر: ر.هـ. روبنز، “موجز تاريخ علم اللغة في الغرب”. مرجع سابق، ص: (94ـ 107). ↩︎
- نادية رمضان النجار، “فصول في الدرس اللغوي بين القدماء والمحدثين”. مرجع سابق، ص: (50). ↩︎
- نفسه، ص: (51). ↩︎
- ميلكا إفيتش، “اتجاهات البحث اللساني”. مرجع سابق، ص: (5). ↩︎
- ر.هـ. روبنز، “الموجز في تاريخ اللغة عند الغرب”. مرجع سابق، ص: (169). ↩︎
- وليم جونس Jones (1746 ـ 1794): مستشرق إنكليزي، اهتم بالدراسات الهندية، ترجم المعلقات. وقد كان يعمل قاضيًا في بلاد الهند، وأثناء قيامه بدراسة اللغة “السنسكريتية”، اكتشف تقاربها مع اللغتين اليونانية واللاتينية، وثلاثتها من أسرة اللغات الهندية الأوروبية، التي انحدرت منها جل لغات الغرب. ↩︎
- عاطف مدكور، “علم اللغة بين التراث والمعاصرة”. دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1987م، ص: (63). ↩︎
- نفسه. ↩︎
- رمضان عبد التواب، “المدخل إلى علم اللغة، ومناهج البحث اللغوي”. ط2، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1405هـ ـ 1985م، ص: (7). ↩︎
- رمضان عبد التواب، “فصول في فقه العربية”. ط2، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1983م، ص: (11). ↩︎