حوار الشاعر د. عبده منصور المحمودي، لصحيفة الجمهورية: “لا أتكلف القصيدة ولا أشدّ الرحال إليها، هي من تُدهمني متى ما استوى نضج تجربة في كياني”(1).
أجرى الحوار الصحافي: محمد هزاع السامعي.
ينبض بأحاسيسه وشاعريته. يأخذنا إلى مستوى النضج والتفرّد والفن. يضع فيه اكتمالات حزنهِ وعشقهِ وطموحهِ المُتَّقد إبداعًا وتأصيلًا.
تستوقفك روعة ذائقته الشعرية، وفرادةُ ذلك الشلال المُتدَفِّق من نبعه المُتلألئ ..
إنه ذلك الساحر المتوهج في قصائده التي تموسق نفسه مشروعَ حُزنٍ، في صومعة الشعر ومحراب القصيدة..
إنه حقًّا المُبدع المتألق، الشاعر: عبده منصور المحمودي، الذي لم يكن لنا بُدٌّ من الإيغال في تجربته، أو بالأحرى قل مُلامستها، إلّا بالولوج إلى عالمه الخاص؛ لنجد أنفسنا معًا صدفًا في هذا الحوار.
لحظة الإلهام الأُولى
المبدعُ المُتألقُ، ليس وليدَ اللحظة، ولكن له رؤاه الخاصة وتصوراته المبتكرة، تنمو، وتتطور، وتتأصل، … هل بإمكان المبدع عبده منصور المحمودي أن يبوح ببعضٍ من مقتطفات رحلته الإبداعية؟
بدايةً، أشكر الجمهورية صحيفةً ومُحرّرًا على اهتمامها بالمبدعين. واضطلاعها بدورٍ ثقافي تنويري رائد. جعلها تتبَوّأ هذه المكانة في نفوس القراء والمثقفين.
أما رحلتي الإبداعية، فلا تزال في مستهل الطريق. وإن كان لا بد من الحديث عنها، فقد بدأت اقتراف القصيدة منذ اللحظة التي أحسست فيها بوجودي واستعار عاطفتي. حينها لم يكن بوسعي إطلاع الآخرين على ما أكتب. فكتبت لنفسي. وبقت قصائدي منطوية بيني وبين بوح السطور. إلى أيام الجامعة، حينما وجدت تشجيعًا حقيقيًّا من أساتذتي الأجلاء: الدكتور محمد صالح الريمي، والدكتور حسن حيدر. ثم بعد ذلك في كلية الآداب، من أستاذي الدكتور الفاضل عباس السوسوة، والدكتور ثابت بداري، والدكتور يحيى المذحجي. وكل أساتذتي الأجلاء، الذين كان لهم الفضل الكبير على كتاباتي الإبداعية.
كما مكنتني مشاركاتي الشعرية، من الاحتكاك بتجارب إبداعية غايةً في النضج والاكتمال. تجارب الزملاء المبدعين في الصباحيات الشعرية، التي كانت تقيمها عمادة شؤون الطلاب في الجامعة أسبوعيًّا. وفعاليات مؤسسة السعيد. ثم فعاليات المواسم الثقافية للجامعة. وأمسيات اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين فرع تعز.
وفي سنة دراستي للمقاصة في كلية الآداب، فزتُ بالمركز الأول في المسابقة الشعرية، التي نظمها فرع اتحاد طلاب جامعة تعز في الكلية. وفي الفترة نفسها فزتُ بالمركز الأول في المسابقة الشعرية لجامعة تعز، التي نظمتها عمادة شؤون الطلاب ومركز الإرشاد والبحوث النفسية في الجامعة.
وأخيراً وفقني الله للفوز بجائزة رئيس الجمهورية للشباب “مجال الشعر”، محافظة تعز 2006م ، بالمناصفة. فضاعفت هذه الجائزة من مسؤوليتي الإبداعية. كما مثّلتْ نقطة تحول نوعية، في مسيرتي الشعرية. وهكذا وجدت نفسي متماهيًا في روح القصيدة. أمنحها إخلاصي ولهفتي. وتمنحني سلاستها وعذوبتها ودفء رقتها اللذيذ.
الشكل قالبٌ قيمتُه كامنةٌ فيه
المبدع سلطان في نصه، يختار ما يتفق من الصورة، وما يتناسب من الشكل .. أين تجد نفسك؟
أجد نفسي في صومعة الشعر ومحراب القصيدة. لا يهمني بأي شكل أكتب؟ بقدر ما يهمني ماذا أكتب؟
الشكل عندي، ليس سوى قالب ينتزع قيمته من قيمة ما فيه. والمضمون هو الذي يفرض الشكل الذي يتناسب مع ما يموج فيه من إبداعٍ، وما ينضح به من معنى.

هُويّة النص الأدبي
النص الأدبي لا يحتاج إلى جواز سفر كما قيل، فكيف يثبت صاحبه هويته؟ هل هناك من فقدان؟
يعدّ النص هوية صاحبه، وجواز سفره إلى القلوب. إنه روح مبدعه ونبض شاعريته. وكلما أحس المبدع أن روحه تسري في نصوصه، كان أكثر قدرة على إثبات هويته. وليس من السهل فقدان هذا الجواز ــ النص ــ مادام نابضًا بروح صاحبه، ممهورًا بفرادة أسلوبه الخاص، ونضج تجربة المبدع. واكتمال أبعادها وراء هذا التفرد. أما أن تكون التجربة غير ناضجة أو مشوهةً؛ فهذا هو الفقدان بعينه.
طقوس الشعر
عندما يأتيك الشعر، ماذا تمارسُ معه من طقوس؟
أمارس طقوس الكتابة الشعرية، التي تباغتني بها إيحاءات القصيدة. أمنح القصيدة إخلاصًا مطلقًا؛ فتكشف لي ما أقوى على احتماله من أسرارها. أتماهى معها حتى اختفاء الملامح فيما بيننا؛ فأرانا مزيجًا يعانق البياض بانسيابٍ لذيذ.
إخلاص وتدفُّق
قُلت: إنك تمنح القصيدة إخلاصًا مُطلقًا، فهل تجد ثمة شيئًا يعكر هذا المنح؟
الإخلاص الشعوري المتدفق بوعي وبغير وعي، ليس فيه مكانٌ للشوائب والمعكرات.
قصيدتك معطاءة ودفاقة، تنهمر كشلالٍ، تحمل القارئ على إعادة قراءتها. كيف استطعت استثارة خبايا القارئ؟
شكرًا على لطافة إطرائك الذي أراني دونه بكثير، فإذا كانت قصيدتي حقًّا كما تقول، فليس لديّ آلية محددة مقصودة ألتمس بها ذلك، غير أني أكون مخلصًا لقصيدتي إخلاص عاشق لمعشوقةٍ تستحيل حياته بدونها. أعيش تجربتي معايشة حقيقية متشابكة الروافد والمثيرات. لا أتكلف القصيدة ولا أشد الرحال إليها، هي من تدهمني متى ما استوى نضج تجربة في كياني. فأحرص على أن تكون لوحةً تتحرك فيها حيوية تلك التجربة، مموسقةَ الأحاسيس، متناسقةَ الأبعاد والتقاسيم؛ لتكون القصيدة ــ بذلك ــ تصويرًا حيويًّا صادقًا لتلك التجربة من دون رتوش.
المعاناة والإبداع
في قصيدتك “من سراب الشوق”:
“فمن يا قوم يُنصفه، فيشكو؟
ومنْ يا دهرُ يمنحه الأمانا”
أخرجت من ثنايا تأبطك معاناة جيلٍ أنت منهم، فهل ــ يا تُرى ــ المعاناة تلد إبداعًا، أو العكس؟
هذه القصيدة وجدانية تنضح بالمرارة والشجن. فيها المعاناة امتدادٌ لتمزق وانكسار العاطفة. هذه المعاناة لها ما يماثلها في إبداعات كل جيل تقريبًا.
والمعاناة بكل أشكالها وألوانها، وتحت أي ظرفٍ من الظروف، وفي أي زمان ومكان، هي من تلد الإبداع، وليس العكس؛ فالمعاناة هي السحر المتوهج في روح القصيدة. إنها نمو وجداني، وصقل وتشذيب للعاطفة. هي ماء الإبداع وحيويته وسر خلوده في كل زمان ومكان.
صورت المعاناة بـ “السحر المتوهج في روح القصيدة”، إلامَ يعود هذا التوهج؟
يعود إلى استعذاب لذة الحزن، ولذة الانصهار بلهب المعاناة. وقبل هذا الشعور الصادق بالمعاناة، الذي لا يحتاج إلى دعوة حضور.
هل لك أن تطلعنا على سر هذا الحزن المكبوت في قصائدك؟
الحقيقة أن الحزن عالمي اللذيذ، وواحتي المترعة بالدمع. إنه سمائي الصافية التي تتراتب فيها عاطفتي بتشظيها وتمزقها. وهو آفاقي الشاعرية، التي تتموسق فيها أنّاتي وتأوهاتي.
هذا الحزن لم أمارسه عمدًا، لكنه هو من مارسني فأتقنني، وألهمني طقوسه ومواويله الشجية. تغلغل في ذاتي وتشربت به روحي؛ فأتت القصيدة متخمة به، إنه اللذة السريالية الراكضة في متاهات الوجدان وفلسفة القصيدة.
ثنائية الحضور والغياب
هناك بروز للمبدعين على الساحة الأدبية من حينٍ إلى آخر، ومن ثم تطرأ فترات انقطاع، فما سر هذه الثنائىة؟
الغياب ــ الذي تقصده ــ هو حضور آخر في وجدان المبدع. حضور داخلي، وهو في رأيي أكثر إيغالاً وتمثيلاً لشاعرية المبدع/ الشاعر، من ذاك الحضور الخارجي.
إن المبدع الحقيقي إن لم يكن دائم الحضور في الساحة الأدبية يكن دائم الحضور مع نفسه وكائنات إبداعه؛ فالإبداع حياة شعورية ملازمة لحياة المبدع البيولوجية.
قد تكون الظروف المحيطة بالمبدع وراء هذه الثنائية (الحضور/ الغياب). لكنها لا يمكن أن تكون في أية حال من الأحوال سببًا في خفوت جذوة إبداعه.
الرافد الإبداعي الجوهري
بما أن الإبداع يتأثر بالبيئة، ويرتبط بالواقع، ويمتزج باللغة، فهل ترى في التخصص رافدًا جوهريًّا لتمتين العلاقة؟
الإبداع موهبة فطرية وميول. وليس تعلمًا واحترافًا. لذا؛ فالتخصص رافد مساعد، وليس رافدًا جوهريًّا. مثلًا: ليس كل متخصص في دراسة اللغة والأدب سيصبح شاعرًا. وليس كل شاعر كان متخصصًا في دراسة اللغة والأدب … وهناك من جمع بين مشرط الطبيب ويراع الإبداع. وهناك من جمع بين منطقية الهندسة وشاعرية الكتابة .. وكثير هم اللغويون، الذين لم يقولوا بيتًا شعريًّا واحدًا في حياتهم. وكثيرة هي الأسماء الإبداعية، التي لا علاقة بين تخصصات أصحابها وميادين إبداعاتهم.
التحيز الفني
اتسمت حياة الأمة بالتراجيديا في ظل الصراع القائم من أجل البقاء، ألا تكفي هذه الصورة لتكون محل اهتمام المبدعين؟! لماذا هذا التحيز الفني، وتلك الفلتات العاطفية؟
التحيز نسبي، والواقع غير الأمس .. الوضع تغير والحياة بكاملها تغيرت. صارت الرصاص أبلغ من الكلمات والفعل أبلغ من القول … حتى العاطفة لم تعد نسخة من عاطفة الأمس. فالسمة الغالبة على عاطفة العصر هي سمة التمزق بتناقضات الحياة، والإحباط بمخاوف واحتمالات المستقبل المجهول.
والشعر باعتباره فنًّا إبداعيًّا، لم يعد شعرًا توجيهيًّا أو تعليميًّا. كما لم يعد ذاك الشعر الذي يثير الجماهير بإيقاعاته وانسياب أوزانه. الشعر صار رؤىً فكرية شعورية متمازجة التقنيات والآليات.
إشكالية الحداثة
الحداثة مثار جدلٍ في الساحة الأدبية، كل يؤيد ما يراه مناسبًا في ذاته وأفكاره … لقد أوجدت تصادفًا، أو ربما تأزمًا في المستوى الفكري والثقافي، كيف تنظر إلى هكذا قضية؟
الحداثة واقع تفرضه حتميات ثقافية وفكرية، سياسية وتاريخية. ولكل عصر حداثته، ولكل أمة حداثتها: فالعرب لهم حداثتهم كما للغرب حداثتهم. ومن هذا المنطلق؛ فالحداثة العربية حداثة حتمية مُتسقة مع خصوصية كل زمن. ففي القديم جاء أبو تمام بإبداع منطقي فلسفي. وكان في ذلك متأثرًا بما فرضته الحياة، من اتصال بثقافات مختلفة وفكر غير عربي؛ فكان إبداعه مُتسمًا بالإبهام والغموض، حتى أتاه من يقول له: “لِمَ لا تقول ما نفهمه؟!”، فيجيبه: “ولم لا تفهمون ما أقول؟!”. فأبو تمام كان حداثيًّا قياسًا بحتميات عصره.
واليوم، صار العالم قرية واحدة؛ بفضل وسائل الاتصال والثورة العلمية الهائلة، فكان لهذا الواقع تأثيره المباشر وغير المباشر في كل جوانب الحياة. بما في ذلك الجانب الفكري والثقافي. في هذا الجانب حدَثَ نوعٌ من التلاقح الفكري والثقافي؛ الذي أثرى المخيلة الشعرية والبنية الفكرية للمبدعين، فصار الإبداع مزيجًا من الذات وما أفرزته حتمية هذا التلاقح.
الجديد والحديث
يعني هذا إطلاق على كل ما هو جديد حداثيًّا؟
ما اتسم بجدة المضمون، وكان عصارة لهذا التلاقح هو الحداثي. والحداثة ليست حداثة شكلٍ بقدر ماهي حداثةُ مضمون؛ فالمضمون ــ وليس الشكل ــ هو المتّسم بالحداثة أو التقليد؛ لذا تجد من يكتب قصيدة خليلية الشكل أدونيسية المضمون. في حين تجد شاعرًا آخر، يكتب قصيدة متحررة من الوزن والقافية، مُقيدة بسماتٍ تقليدية محاكاتية لا تمت إلى الحداثة بصلة.
قصيدة النثر
وماذا عن الضجة التي تُثار حول قصيدة النثر؟
القصيدة الأجد نمطٌ إبداعيٌّ، عكسه الواقع المضطرب المتغير والمتسارع. هذا النمط من الإبداع له سماتٌ شعرية ملموسة .. والعمل الإبداعي في كل الأحوال، إذا ما اتسم بسماتٍ إبداعية، فإنه يفرض نفسه. ولا تستطيع أيّة قوة إقصاءه أو إنكاره .. وإذا افتقد هذه السمات. فإنه يفصح عن ماهيته بنفسه، ويقضي على نفسه بنفسه.
الإيديولوجيا والإبداع
ألا ترى أن للإيديولوجية تأثيرًا في الجانب الفني للنص الإبداعي؟
الإبداع الحقيقي غير خاضع لأية أيديولوجية، فأدلجة الإبداع وأد لحرية الإنسان التي فطره الله عليها. ووأد هذه الحرية إقصاءٌ لمكنونات الذات، وتعطيل لقدراتها الإبداعية.
حركة النقد الأدبي في اليمن
كيف تنظر إلى حركة النقد الأدبي في بلادنا في ظل الطفرة الأدبية المتوسعة؟
من الملاحظ أن النقد الأدبي في بلادنا ــ أقصد النقد المنهجي ــ له حضور في الرسائل والأطروحات العلمية، وفي بعض المؤلفات القائمة على النقد المنهجي. وهناك كتابات وقراءات نقدية، تُنشر في الصحف والمجلات. هذه القراءات والكتابات منها المتضمنة نقدًا منهجيًّا. ومنها المتسمة بنقد انطباعي تأثري.
وحضور النقد المنهجي، لا يوازي اتساع هذه الطفرة الأدبية، التي تنتظر مزيدًا من هذا النقد؛ فالنص النقدي إبداع آخر مرافق للنص الأدبي. هذا الترافق بين النصين ــ الأدبي والنقدي ــ حاجة ملحة لثراء وتكامل المشهد الإبداعي.
- أجرى الحوار الأستاذ محمد السامعي، ونُشر في صحيفة “الجمهورية”، اليمن ـ تعز، 16 مارس 2007م. ↩︎