نَمْ بسلامٍ يا أبي!
نصف شهرٍ يا أبي! ولم أسمعْ صوتكَ، لا مِن فمكَ المعطّر بذكر الله، ولا من سماعة الهاتف!
نصف شهرٍ يا أبي! وأنا أتمزّقُ بحاجتي إلى سماع اسمي بصوتكَ الخالد في ذاكرتي وقلبي.
نصف شهرٍ يا أبي! وأنا أتمزّق بحاجتي إلى سماع صوتك، كلما حانت مواعيد الصلوات الخمس.
نصف شهرٍ يا أبي! وكلما سمعتُ بابَ الديوان يُفتَح، أُطِلّ من نافذة غرفتي، أبحثُ عنكَ، أحدّقُ في محيط البيت، لكنني لا أراك!
نصف شهرٍ يا أبي، ومكانُك في الديوان شاغرٌ، لا يمكن لأحدٍ أن يملأه سواك! لا يمكن لأحدٍ أن يضفي عليه الحياة سوى ابتسامتك، التي غابت عنّا منذ نصف شهر يا أبي الخالد في ضيافة رب العرش المجيد.
نصف شهرٍ يا أبي! والطريقُ إلى مسجدنا يتساءلُ عنكَ، عن خطواتك التي افتقدها. ليس الطريق وحده مَن يتساءلُ عن غيابك، مثله المسجدُ يتساءلُ، وأروقتُه تتساءل، و”مايك” الأذان يتساءل مع حلول موعد كل صلاة. حتى نوافذ المسجد ــ يا أبي ــ تتساءل عنكَ كُلما قام أحدٌ بإغلاقها، أو قام بفتحها، تتساءلُ عنك؛ لأنها اعتادت عليك. يتساءل عنك بابُ المسجد، كلّما قام أحدٌ بفتحه، أو قام بإغلاقه. يتساءل؛ لأنه كان قد اعتادَ على يديكَ المُباركتين.
نصف شهر يا أبي! وأنا أناجيك في خلواتي. أقتنص أقرب فرصة لأبقى وحيدًا، ثمّ أبكي بحرقةٍ وحزنٍ وقهرٍ وحسرة.. أختلس أقرب فرصةٍ مواتية؛ لأعيشَ انكساري بمشاعري الإنسانية الخالصة، مشاعر الحزن والنحيب والألم، مشاعر الدمع المنهمر بغزارةٍ وحرارةٍ حارقة. أحرصُ على ألّا يراني أحد.. أحرص على أن أكون وحدي؛ حتى لا تنهار عائلتنا الصغيرة بانهياري.
نصف شهرٍ من الغياب يا أبي! ولا أزال واهمًا أنك ستعود إلينا، أنك في الطريق إلينا، أنك لن تتأخر علينا كثيرًا. أحاول استيعاب فكرة رحيلك الأخير، لكنني أعجز عن ذلك. لا أدري لماذا لم أستطع استيعاب الفكرة، بالرغم من إيماني بحتمية القضاء والقدر، وإيماني بحتمية الحياة ومراحلها التي لا مناص من المرور بها، إيماني بحتمية النهاية التي تنتظرنا جميعًا. لكنني ــ على ذلك كله ــ لا أزال طامعًا في سماعِ صوتكَ الحنون، وسأبقى طامعًا في ذلك ما حييت.
نصف شهرٍ من الغياب يا أبي! وكلُّ شيءٍ يذكِّرني بك، ويأخذني إليك: صوتُ أطفالي وأحزانهم الصغيرة التي نقشتْها فجيعتُهم برحيلك. سلامُ الناس عليّ، نظراتُ أمي المكلومة بغيابك، انكسارُ إخواني المحزونين بارتقائك إلى السماء، نحيبُ أخواتي المتقطع بين الحين والآخر.
كلُّ شيءٍ يذكرني بك، ويأخذني إليك، حتى انشغالي الذي حاولت العودة إليه بعد نصف شهرٍ من غيابك، لم أستطع استئنافه، لأنه يأخذني إليك، مع كل صوت من أصوات الكيبورد المسكون بحسرتي على غيابك الأبدي.
أتعرف يا أبي العزيز:
يتحدث الناس ــ بعد نصف شهر من غيابك ــ عن شهر رمضان القادم. يقولون إنه على الأبواب، فيأخذني حديثهم إليك، وإلى حالنا المأساوية حين يأتي، أتساءل بصمتٍ وشرود: مَن سيستقبل الشهر الكريم بالتسبيح؟ مَنْ سيستقبلهُ بالجملة التي اعتدنا على سماعها منك: “سُعِد مَنْ يعودك!”؟ مَنْ سيجعله كاملَ الروحانية التي اعتدنا عليها منك؟ مَنْ سيحُثّنا على عدم التفريط في أيّامه ولياليه؟ مَنْ سيعطر نهاراته بجملة الدعاء، التي اعتدنا على سماعها منك: “يا توّابْ تُبْ علينا”؟
سيظل كل شيء يذكرني بكَ، ويأخذني إليك، مهما توالت السنوات والحقب؛ لأنك راسخٌ في تفاصيل حياتنا، راسخٌ في ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا. لأنك تربّعت على مكانةٍ ثابتة في قلوبنا، لأن عطاءك وأبوّتَكَ واهتمامك بنا يانعٌ فينا الدهر كلّه.
أبي الغالي:
ها أنا كما كنتَ تريد.. “قَعْ رجّال”.
ها أنا حريصٌ على التماسُكِ والثباتِ، في وجه المحنة القاسية. حريصٌ على أنْ أظهر بكلِّ قوةٍ ورجولةٍ وبأس، ليجد فيّ بقيةُ أفراد العائلةِ نموذجًا يُحتذى، نموذجًا للصبر والاحتساب والثبات.
لكنني سأكون صادقًا معك: منذ رحلتَ يا أبي، ومرارةُ الحياة تفتكُ بي. ما أقسى حسرتي! وما أثقل الحياة على كاهلي! وما أشدّ الليالي قتامةً وظلامًا في قلبي وروحي.
رحيلُكَ يا أبي! علّمني معنى اليُتم الذي يتجرّعه الكبيرُ قبل الصغير. لم أكنْ أستوعب أنّ اليُتم على هذا القدرِ من المرارة والأسى والحزن الجارف. علّمني رحيلُكَ معنى اليُتم، فاستحضرتُ أحوالَ كلّ من فقدوا آباءهم، وأشفقتُ عليهم، وتمثّلتُ حسرتهم وإحساسهم بشراسةِ الموت وقسوته عليهم.
ستقول لي: لم تعدْ صغيرًا يا بُني! نعم، لم أعدْ صغيرًا. لكن اليُتم لا يتقيّد بتشريعات العُمر وقطعياته. اليُتم ــ يا أبي ــ يمتدُّ، ينمو، يتسع؛ فيشمل الصغير والكبير على حدٍّ سواء. وما أقسى مرارة اليُتم حينما يفتكُ بِمَنْ لم يعودوا صغارًا!
أبي الغالي:
قبل يومين، زرتُكَ إلى قبرك، ألقيتُ السلامَ عليك، لكنني لم أسمع ردّك السلام عليّ. لقد كان الصمت سيد الموقف، وكان الدمع سيد اللحظة المؤثثة بدعائي لك وقراءتي الفاتحة.
مررتُ حيث كنتَ تقضي كثيرًا من وقتك، في غرفة “المحراس” الصغيرة العامرة بروحك النقية. لاحظتُ المتكئ الحجري بجانبها حزينًا منكسرًا يبكيك، لاحظت نافذتها الصغيرة مفتوحةً على الحزن الكثيف، راشحةً بالمأساة الجاثمة على صدورنا منذ رحيلك.
أبي الراحل إلى سماوات الخلود:
كيف نتحدث عنك؟ وبأيّة لغةٍ يُمكننا أن نصف فضلك علينا، وحرصك على أن نحقق كل ما نطمح إليه مهما كانت تكلفته باهضة؟
لم تترك بابًا لإسعادنا إلّا وطرقتَه. لم تترك عائقًا من العوائق إلّا وأزلْتَه من طريقنا. لم تدخر شيئًا إلّا وقدمتَه إلينا بسخاءٍ لا نظير له. بذلت كل ما تستطيع من أجلنا: تعليمًا، وتربيةً، وأبوة، وحنانًا.
كيف يمكن أن نتحدث عن طريقتك الخاصة في تربيّتنا؟ تلك الطريقة النادرة، التي لم تزد على أن تكون نوبةَ غضبٍ مقتضبة، كُنتَ تُشْعرنا من خلالها أنّ خطأً ما قد ارتكبناه. لا نتذكر أنك يومًا صفعتَ أحدًا منّا، لا نتذكر أنك يومًا استخدمتَ الضرب وسيلة عقابٍ بأي شكلٍ من الأشكال. لستُ مبالغًا على الإطلاق، أقولها بكل ثقة ومصداقية: لا أتذكر أنك يومًا عاقبتني بالضرب. كل ما أتذكره صوتك الغاضب فقط، وقد كان كافيًا لزلزلة فرائصي وإثارة خوفي وتأديبي وعقابي.
أبي المتوّج بالمحبّة والرضا:
رحيلُكَ خسارةٌ فادحة، نتجرّعُ تداعياتها جمرًا من الألم والحزن والانكسار. لقد أُغلِقَ برحيلك بابُ السماء الأول. وسنعمل على نيل رضا الباب الثاني، حتى انغلاقه بعد عمر طويل، وحتى التقائنا بك.
رحيلكَ ــ يا أبي ــ لم يكن خسارةً فحسب، بل كان مأساةً لا حدود لآثاراها القاسية.
لم تكن مأساةُ رحيلك مأساتنا وحدنا، بل كانت مأساةً لكل فرد في عائلتنا، مأساةً لكل فردٍ في أسرتنا الغالية أسرة الحاج حمود علي، التي تلوّنتْ ملامحُ كلِّ فردٍ فيها بألوان الحزن والحسرة والألم. مأساةً لجيراننا الذين تمزّقتْ قلوبُهم حسرةً عليك وإشفاقًا علينا. مأساةً استشعرها أهل بلدتنا وقرانا. مأساةً أُصيبَ بها كلُّ شخصٍ عرفك أو التقى بك. ألم تر بعضًا من ذلك في لحظة الصلاة عليك؟
لسنا وحدنا مَن استوطنَ حبُّكَ قلوبَهم، لقد لَمَسْنا حُبّ الناس لك في كل العيون، سمعناه في شتى التأوهات، قرأناه في مرارة التعازي، في حشرجات المُصلّين وسطور دموعهم. في حسرات المُتّصِليْن، والداعين لك، في أصداء الأصوات التي تتهادى قراءةً للفاتحة، ودعاءً لك بالرحمة والمغفرة والرضى من الله عليك، ليسكنك الله الفردوس الأعلى.
لم نكن وحدنا الباكين يا أبي، لقد ذُرفت الدموع من عيونٍ شتى، بما في ذلك عيونُ عددٍ من المعمرين، الذين لا يفصل بينهم وبين اللحظة الأخيرة من حياتهم، سوى زمنٍ محدودٍ، لا يعلمه إلّا الله وحده.
نم بسلامٍ يا أبي!
أعدُكَ أن أنفّذ وصيتكَ حرفًا حرفًا: “إخوانك يا عبده..أنت أبوهم .. أنت مكاني.. وأنا أحيا أو أموت”.
اطمئن يا أبي، سأكون كذلك. لم أخلف لك وعدًا وعدتُكَ به في حياتك، ولن أفعل ذلك بعد رحيلك. بل سأكون أكثر حرصًا على أن أظلّ عند حُسْنِ ظنّكَ بي، في حياتك وفي مماتك، حتى نلتقي وإيّاكَ في رحاب الخالدين.
كرّرتَ الوصيَة مرارًا عليهم: “عبده أبوكم، اللي شيقول لكم تعملوه اعملوه.. واللي شيقول لكم لا تعملوه لا تعملوه”.
اطمئن يا أبي! سيكونون كذلك، أليسوا ثمار تربيتك التي يزهون بها، كما تزهو الليالي بقمرها المكتمل؟!.
أبي الغالي
لقد وضعتَ ثقتكَ الكاملة فيّ، يا لهذا الشرف الذي نلتُه منك! شرفٌ لا يمكن أن يدانيه أيّ شرف، وسعادةٌ لا يمكن أن تقترب منها أيّةُ سعادة.. وشهادةٌ تتقزم أمامها كل الشهادات التي نلتُها من قبل، وكل الشهادات التي يمكن أن أنالها من بعد.
أبي الغالي: أعدك بأنني سأكون كما تمنيتَ لي أن أكون.. كما أردتَ لي أن أكون.. كما أمرتَني أن أكون.. كما أوصيتَني أن أكون..
نم بسلامٍ يا أبي!
ونعدُكَ أنْ يصلَ إليك البّرّ منّا بعد رحيلك، كما اعتدتَ عليه منّا في حياتك. لن نخذلك ما حيينا.
نم بسلامٍ يا أبي!
ورحمة الله تغشى روحكَ الطاهرة في كل لحظةٍ وحين.
نم بسلامٍ واطمئنانٍ يا أبي!
***
فلينم بسلام الوالد الغالي على قلوبنا، فلينم بسلام لانه خلف رجال ونعم الرجال، لن انساه ما حييت، ولا ينساه الا جاحد وناكر للمعروف ، الوالد مواقفه لاتنسى، ستظل دعواتي ترافقة في كل للحظه ، نعم الاب كان، ونعم الابناء خلف، فليطمئن وينك بسلام عبده نعم الاخ والاب لاخواته، الوالد كان حكيم
سحائب الرحمة تغشى روحه الطاهره في كل للحظه وكل حين
كل المحبة والتقدير لك أخي عماد