أنثروبولوجيا النقود والتداول

أنثروبولوجيا النقود والتداول

أنثروبولوجيا النقود والتداول

د. عبده منصور المحمودي

قبل أن تدخل النقود في تفاصيل الحياة البشرية، سبقتها حيثياتٌ متعلقة بأنثروبولوجيا النقود والتداول. كانت ــ هذه الحيثيات الأنثروبولوجية ــ مرتبطة ارتباطًا رئيسًا، بالحاجة الإنسانية إلى تبادل المنافع. وبالتالي بالحاجة إلى وسيلةٍ، تضطلع بتسيير هذا التبادل، وتتناسب مع تحولاته، وحتمية التغيرات الحياتية التي تطرأ عليه بين الحين والآخر.

وقد تمثّلت أول وسيلة تبادلية، فيما عرفه الإنسان في عصوره البدائية الأولى. في ذلك النسق التداولي، الذي تجسّد في صيغةٍ من التبادل البدائي. ذاك النسق كان قائمًا على “تبادل شيء بشيء”؛ وفقًا لصيغٍ متعددةٍ من الضمنية التوافقية، بين الأشخاص الذين يتبادلون أشياءهم.

“الماشية” وسيلة نقدية

 لم تستطع تلك الوسيلة البدائية ــ “تبادل شيء بشيء” ــ الصمود في وجه تحولات الحياة المتتالية. كما لم تستطع مجاراة خطوات التطور الحتمية المتلاحقة. فقد عجزت تلك الوسيلة عن استيعاب مستجدات الحياة، واتساعها وتنوع حاجاتها. ذلك، بعد أن فقد الاستهلاك والإشباع الذاتي المحورية، التي تقوم عليها الأنشطة الاجتماعية، المُتّسِقة مع تلك الوسيلة البدائية. إذ انتقلت الحياة إلى مرحلة جديدة، تمثّلت في الإنتاج المتصاعد، الذي تنامى في اتجاه تحقيق “فائض التبادل”. عندئذٍ، ظهرت حاجة ماسّة إلى وسيلةٍ تبادليةٍ جديدةٍ، مأهولة لاستيعاب وتيرة التزايد في الفائض الإنتاجي.

أفضت هذه المعطيات، في صيرورة التحول وأنساق الحياة، إلى البحث عن هذه الوسيلة المتناسبة معها. وبذلك، بدأ التوجه الاجتماعي ــ بمفهومه العام ــ في إنعام النظر في احتياجاته، وممتلكات أفراده. ثم نحى منحى اتّخاذِ عددٍ من الإجراءات العملية، كتصنيف السلع، وتحديد قيمها، وتوصيف أصنافها. وكذلك، تحديد الحاجات الاجتماعية، المختلفة باختلاف مستجدات الحياة، في تلك الحقب من مسيرة التطور في الحياة الإنسانية.

ومن خلال هذه العمليات الإجرائية، تبلورت رؤيةٌ اجتماعية بدائية بسيطة، في توصيف وسيلة التداول البديلة. وفيما ينبغي أن تكون عليها ــ هذه الوسيلة ــ من مقوماتٍ وسماتٍ ثابتة. تمثلت أهم تلك المقومات والسمات الثابتة في وجوب أن تمثّل هذه الوسيلة صنفًا معياريًّا واحدًا وواضحًا. بوصف هذا المعيار وسيلة تبادل أكثر جدوى من سابقتها.

استقرّت خيارات البحث الاجتماعي عن الوسيلة البديلة ــ المتوافر فيها قدْرٌ مقبولٌ، من هذه المقومات المعيارية ــ على خيار “الماشية”. وبذلك، كانت “الماشية” أول معيارٍ للقيمة التبادلية. وقد استخدمت القبائل والجماعات في الحياة البشرية البدائية “الماشية”، وسيلةَ دفعٍ وتبادلٍ بين أفراد المساحات الجغرافية المتقاربة. كما استخدمتها بين أفراد المساحات الجغرافية المتباعدة، التي تستوعب المسافةُ إليها التوافقَ على “الماشية” وسيلةَ دفعٍ معيارية.

وعلى غلبة “الماشية” وسيلةَ دفعٍ معيارية، في المجتمعات البدائية، إلّا أن بعضًا من تلك المجتمعات، وجدت في استخدامها للأحجار الكريمة ــ وبعض السلع المعدنية أو الغذائية ــ وسيلةً معيارية مناسبة لها. بعد أن وجدَتْها متوائمةً مع خصائص الحياة التي يعيشها أفرادُها.

المعادن غير المسكوكة

اتّسعت الحياة تِباعًا، وتنامى الإنتاج بصورةٍ أكثر اتساعًا وتنوعًا؛ فانعكس ذلك في اتِّساع نطاقات التبادل وآلياته. إذ لم يكن معيار “الماشية” في مقدوره استيعاب ما استجدّ، من خطوات تقدمٍ في الحياة البشرية. وهنا، كان لا مناص من البحث عن وسيلة معياريةٍ جديدة. مأهولة للتعاطي مع متغيرات الاتساع والتنوع، التي اطّردت في الحياة، واطّردتْ في العمليات الإنتاجية والتبادلية. لذلك، كانت “المعادن النفيسة غير المسكوكة” ــ لا سيما (الفضة والذهب) ــ هي الوسيلة البديلة. التي تتواءم مع ما وصلت إليه الحياة، من مستوى التطور والتنوع. وذلك، لما تتميز به هذه الوسيلة، من خصائص معيارية قابلة لقياس الأثمان، وتقييم السلع. وكذلك، تميزها بتحديد القيمة في الخدمات المتبادلة، بين أفراد المجتمع الواحد من جهة، وبين المجتمعات الإنسانية ــ على مستوى تطوري أشمل ــ من جهةٍ أخرى. وبذلك، حلّت هذه الوسيلة الجديدة محلّ “الماشية”.

المعادن المسكوكة نقودًا

بعد قرونٍ من الحياة ــ القائمة في عملياتها التداولية، على استخدام المعادن النفيسة غير المسكوكة: (ذهبًا وفضة). وبعد خطوات تطورية في المجتمعات ــ ظهرت الحاجة إلى وسيلةٍ تبادليةٍ أكثر دقة وثباتًا. وهنا، كان الطريق إلى تحقيق هذه الوسيلة ممكنًا في سكّها من “المعادن النفسية”. إما من مادة “الذهب”، وإما من مادة “الفضة”، وإما منهما معًا في الفئة الواحدة. أو في تخصيص إحداهما لفئاتٍ معينة، والأخرى لفئات مختلفة عن فئات المادة الاولى. وبذلك، كانت النقود هي الصورة المادية، التي تخلّقت من هذا الإجراء المُستَجَدّ، في سياقات التطور المتعاقبة، في أنثروبولوجيا النقود والتداول.

ومنذ سك وسيلة التبادل نقودًا من المعادن النفسية، لا تزال النقود هي ذروة التغييرات التي طرأت على خيارات وسيلة التبادل. إذ مثّل الانتقال إليها محطة تحوُّلٍ نوعيةٍ جوهرية ومهمة في معيار القيمة، الذي استقرّ فيها. ومنها توالت خطوات التقدم والتطوير لهذا المعيار. سواءٌ أكان فضيًّا أو كان ذهبيًّا، فقد توالد خطوات التقدم والتطور فيه، بمتواليةٍ ممتدةٍ، في تعاقب العصور التاريخية وحتميات التجديد فيها.

اليمن وأنثروبولوجيا النقود والتداول

مثل غيرهم من المجتمعات الإنسانية، تعاطى اليمنيون مع معيار القيمة، وفقًا لخطواتٍ متجانسة، مع التحولات التي مر بها هذا المعيار. فقبل أن تظهر عندهم النقود المعدنية المسكوكة، كانوا قد استخدموا أساليب التبادل البدائية؛ كاستخدامهم “الماشية” وسيلةَ مقايضةٍ وتبادل. ثم استخدامهم المعادن النفيسة غير المسكوكة؛ إذ خرجت جهود التنقيب الآثاري، بكنوز وأثاث قبورية يمنية. منها ما يعود إلى الألف الخامس عشر قبل الميلاد، استمرارًا إلى القرون الأولى بعد الميلاد. وفي هذه القبور، عُثر على مقتنيات المدفونين: قلائد، وأساور، وخواتم فضية وذهبية. كما عُثر فيها على اللؤلؤ والعقيق. وعُثر فيها على عقود الأصداف الصفراء، وجواهر متنوعة. كما عُثر على صفائح من النحاس والزجاج والرصاص والحديد، وألواحٍ خشبية كُتبت عليها عبارات بخط المسند. وما في سياق ذلك، من أثاث جنائزي متنوع. يحيل ــ في مُجمله ــ على استعمال اليمنيين القدامى لهذه المقتنيات وسائل دفع. اكتنزوها ودفنوها معهم؛ لاعتقادهم بالبعث، وإمكانية الانتفاع بالحق في الحياة الأخرى.

النقود ودلالة “الماشية”

في سياقاته التاريخية المتعاقبة ــ منذ أقدم العصور حتى العصر الحديث ــ ظل معيار القيمة محتفظًا بنواته الأنثربولوجية الأولى، الماثلة في لفظ “النقود”. إذ تم اشتقاق هذا اللفظ من كلمة (pecuniary)، العائدة إلى اللفظ اللاتيني (pecunia)، المشتق بدوره من اللفظ “ماشية” (pecus). وهو اللفظ الذي لا يزال هو المادة اللغوية، التي تستوعب الدلالة على معيار القيمة المتداول في العصر الحديث، في صيغةٍ من الامتداد التجسيدي لأنثروبولوجيا النقود والتداول. في السياق اللغوي بصيغة إنسانية عامة.

وإلى هذه العلاقة اللغوية وامتداداتها الدلالية، تظهر أنثروبولوجيا النقود والتداول، في صيغتها المجتمعية، التي تشترك فيها شتى المجتمعات الإنسانية. ذلك، فيما يظهر من تفاصيل الحياة ــ التي يعيشها أي مجتمع من المجتمعات ــ في مسكوكاته النقدية، وفي إصدارات عملاته الورقية. فالنقود على اختلاف موادها ــ معدنية كانت أو وورقية ــ تحمل صورًا من ثقافة المجتمع الذي يتداولها. ذلك، أن محتواها يتشكّل، من الثقافة الاجتماعية المحيطة. وبذلك، فهي تحمل محتوىً من: النقوش، والرسوم، والكتابات المختلفة. التي تُمثّل ــ في مجملها ــ قيَمًا ومأثورات وصورًا حضارية. كما تمثّل ــ بتفاصيل محتواها ــ تعبيرًا عن الموروث الإنساني الخاص بكل مجتمع. في سياقات هذا الموروث: الفنية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية، والتجارية، والتاريخية، والحضارية.

وبذلك يمكن القول

إن مسارات التطور في أنثروبولوجيا النقود والتداول، قد بدأت ــ في مراحلها الأولى ــ من معيار القيمة. وكان هذا المعيار يتداعى، مع ما يتوالى من عمليات تطويرية، استهدفت الوصول به، إلى صورٍ متقدمةٍ، من الموثوقية والمعيارية والثبات. وقد كانت النقود هي المادة المأهولة لاستيعاب هذه المزايا. كما كانت مأهولة، بإمكانيات التقدم المفتوح. والإمكنيات المتجددة في كل عصر من العصور، تواؤمًا مع ما تضطلع به، من وظيفةٍ حيوية في مجريات الحياة الإنسانية.

وامتدادًا إلى ما قبل التاريخ، كانت ــ ولا تزال ــ وظيفة النقود متَمَثِّلةً في استخدامها وسيلة للتبادل. إذ ارتبطت هذه الوظيفة بمعيار “القيمة”، الذي كان في أقدم مراحله مقايضةً بدائية. ثم تعقّد مع مرور الزمن، فبرزت الحاجة إلى صنفٍ معياريٍّ واحد، ليكون وسيطًا للتبادل. فكان “الماشية” عند كثير من المجتمعات والقبائل البدائية. فيما كان عند مجتمعات أخرى “أحجارًا كريمة”، أو سلعًا معدنية أو غذائية.

ومع تزايد الإنتاج، واتساع جغرافيا التبادل وتنوعها، ظهرت الحاجة إلى بديلٍ، يستوعب مدى التحول التبادلي، الذي وصلت إليه الحياة الإنسانية. فكانت المعادن النفيسة (الذهب والفضة) غير المسكوكة وسيلة دفع مهمة، تنوعت أشكالها، وقام استعمالها بدرجة رئيسة على الوزن. ثم سارت الحياة ــ بهذا المعيار ــ إلى تمثّله نقودًا معدنية مسكوكة، ثم صكوكًا نقدية ورقية نائبة. وصولًا إلى صورته الحديثة، التي تَمَثَّل فيها نقودًا ورقية وائتمانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *