الرواية وسردية الفنون في رواية غير مشروعة

الرواية وسردية الفنون في “رواية غير مشروعة”

الرواية وسردية الفنون في “رواية غير شرعية

د. عبده منصور المحمودي

بعد مرور سنواتٍ أربع على إصدار الكاتب اليمني جمال الشعري، روايته “تراي شيزوفرينيا”، يَصْدُر عن دار “يسطرون”، في القاهرة 2021م، عمله الروائي الثاني “رواية غير مشروعة”، الذي تضمّن اشتغالًا على توظيف عددٍ من الفنون الجميلة في تسريد أحداث الحكاية فيه، لتتجلى بذلك الرواية وسردية الفنونِ، في نسق من التماهي والتكامل الفني الفاعل في نسج الحكاية السردية.

التّجانُسُ في بُنية الشخصية

تعددت الشخصيات التي قامت عليها سردية هذا العمل، وبالتالي سردية التداخل بين سردية الرواية وسردية الفنون المتعددة. كانت اثنتان من شخصيات الرواية شخصيتين رئيستين فيها: الأولى شخصية “شمسان”، والثانية شخصية “عيبان”. وكلتاهما كانت تفاصيل حياتيهما نسقًا محوريًّا في سياقات العمل. لا سيما ما يتعلق من ذلك بأحداث فضائه الزمني، المتمثّل في العقدين الأول والثاني من الألفيّة الثالثة.

تجانست ــ هاتان الشخصيتان الرئيستان ــ في كثيرٍ من السمات. منها تجانسهما في الصيغة التي ورد عليها اسم كلٍّ منهما؛ إذ اشتركت الصيغتان في الإحالة على اثنين من أشهر الجبال في اليمن. الأول، جبل “شَمْسان” في مَديْنة “عَدَن”. والثاني، جبل “عيْبان”، في “صَنْعاء”. وتنطوي هذه الدلالة على بُعدٍ رمزي، تحيل فيه الجغرافيا ــ التي يقع فيها الجبلان ــ على معاناة الوطن الشاملة.

وتتجلّى جوهريةُ التجانس بين الشخصيتين، في معاناتهما القسوة الاجتماعية التي انسحق بها صاحباها، واحترقا في أتونها. كذلك، يتجلّى التجانُس في المصير الذي آلت إليه حياة كلٍّ منهما. ذاك المصير، الذي وصلت دراماتيكية الأحداث بهما إليه، من هامشية الحياة إلى سدة القيادة؛ إذ صار كل واحدٍ منهما قائدًا نافذًا. كما تجانست الشخصيتان في تعاطيهما مع واقعهما القيادي الجديد. ذلك، في انتهاز كلّ واحدٍ منهما هذا الواقع، في إشباع نزعته الانتقامية من المجتمع الذي يعيش فيه. كذلك، تجانست الشخصيتان في أن كل واحدٍ منهما استثمر موقعه الجديد في التّكَسُّب والثراء.

وقد عزز هذا التجانسَ المكانُ الواحد، الذي آل إليه مصيرهما السلطوي، (محافظة تعز)، حيث انقسما بانقسامها. فقد كانت منطقة “يَفْرس”، التي تقع في الجهة الجنوبية الغربية من المدينة هي مساحة نفوذ “شَمسَان”. وكانت مساحة نفوذ “عيبان”، في منطقة “الحُوبَان”، في الجهة الشمالية الشرقية من المدينة نفسها. وقد سلّطَتْ واحدية المكان ـــ هذه ـــ الضوءَ على حال “تعز”، الممزقة بالظلم من شتى أطراف الصراع.

الخطاب الروائي

قدمت الرواية عددًا من التفاصيل المتعلقة باحتدام الصراع في اليمن. في عدد من صوره الكارثية التي يدفع فيها المدنيون الثمن. من ذلك، المشهد المفزع في ليلة عرس “عيبان”، الذي كانت عروسه ممن صادرت حياتَهم تلك اللحظة الخاطفة، بعد سماع صوت طائرة محلّقة فوق صالة العرس. بعدها أصيب بصدمةٍ نفسيةٍ لم يبرأ منها إلا بعد جلساتٍ طويلة من العلاج النفسي. ثم كان بعد ذلك، على موعدٍ مع أحداثٍ وصلت به إلى مرتبة قيادية عالية، مكّنته من ممارسة نزعته الانتقامية. ومثله “شمسان” الذي اتخذ عددًا من المسارات في ممارسته لهذه النزعة نفسها.

لقد شخصت الرؤية السردية العامة ــ في هذا العمل ــ أزمةَ المجتمع بتراتبية الظلم الذي ينخر بنيته؛ فالفرد ظالمٌ ومظلوم في الوقت نفسه. ظالمٌ لمن هو دونه، ومظلومٌ ممن هو أعلى منه. وقد تمظهرت هذه الإشكالية القيمية، فيما آلت إليه حياة الشخصيتين الرئيستين، (“شمسان”/ و”عيبان). وفي فاعلية نزعاتهما الشخصية الانتقامية، وأطماعهما في استمرار الصراع واتساع رقعته.

السَّرْدِيّة التشكيلية والسينمائية والأدبية

واضحٌ أن الاشتغال على التقنيات السردية ـــ في هذا العمل ـــ قد نال نصيبًا وافرًا من جهد الكاتب، وأضفى ـــ باستثماره لخصائص فنون متعددة ـــ على الرواية ميزةَ تداخل الفنون، حيث تشاركتْ في إنجازها فنون: السينما، والفن التشكيلي، والمسرح. مع محافظة العمل على جوهرية تصنيفه أدبًا روائيًا توافرت خصائصُهُ السردية في فصوله الثلاثة. بما في ذلك الحضور البارز لتقنية “الميتاقص”، في فصله الثالث، الذي كُرِّس للكشف المتدرج عن تداخل التقنيات الفنية المنتمية إلى تلك الفنون.

في صفحات العمل الأخيرة، يمكن الإمساك بالحلقة الأولى من هذه السلسلة التقنية، سلسلة الرواية وسردية الفنون المتعددة في صياغة أحداثها. حيث كانت الخطوة الأولى في بنائه ذات ماهيةٍ سينمائية، حينما ظهرت شخصية المُنْتِج السينمائي “ديفيد مارك”، المشتغل على إنتاج أحداث العمل. بعدما استطاع توليف هذه الأحداث، مما جمعه عن الصراع في اليمن. ومعه في ذلك أخوَاه: “بْرنْتْ”، الذي يعمل مخرجًا سينمائيًّا. و”جُوْناثَان”، الذي يعمل موزّعًا للعروض السينمائِيّة. الإخوة الثلاثة يعيشون في شقةٍ ورثوها عن أبيهم “مارك”. كلُّ واحدٍ من الأبناء الثلاثة، استقَلّ بغرْفةٍ خاصة به. أمّا صالتها فمشتركة بينهم، كذلك هي دوْرة المِياه. وقد احتَكَموا ــ بعد نشوب خلافٍ بينهم حولهما ــ إلى مَصْلحة الشُّؤون العائليّة، التي وزعت عليهم الحقّ في استخدامِهما. فأعطت كل واحدٍ منهم هذا الحق بمقدار ثمان ساعاتٍ في اليَوم واللّيْلة. وعليه، كانت الثامنة مساءً موعدًا لانتهاء دور “جوناثان”، يبدأ بعده دور “ديفيد”، ومن ثم دور “برنت”.

انسياب تسريد الفنون

بدأ “دِيْفيد” اشتغاله على إنْتاج العمل. بعد ذلك، يظهر التجاوز لفن “السينما”، إلى “الفنّ التّشْكيلي”، فأوكل سردية الأحداث إلى شخصيةِ فنانٍ تشكيليٍّ مريضٍ نفسيًا، متأثرٍ بتراجيدية الصراع في اليمن، “بوب بيكاسو”. وبطريقته الفنية، تعاطى هذا الفنان التشكيلي مع المهمة الموكلة إليه، فرسم أحداث الرواية في عددٍ من اللوحات. ثم تنتقل التقنية السردية إلى ميدان الفن المسرحي؛ إذ اتخذ الفنان التشكيلي من غرفته مسرحًا كان هو البطل فيه. وفيها كان له جمهورُه الخاص، المُتَمَثّل في كائناتٍ غير مرئيَّةٍ لأحد، فهو وحده مَن باستطاعته رؤيتها؛ لذلك، كان يقوم بشرح التفاصيل التي تتضمّنها لوحاته لهذه الكائنات.

واحدةٌ من تلك اللوحات، كانت متضمِّنةً شخصية الراوي الخارجي. وفيها كان الانتقال الجوهري من ميادين الفنون إلى ميدان الأدب. وبذلك، كان الفصلان ــ الأول والثاني ــ ساحةً لسردية الأحداث وروايتها على لسان شخصية الراوي الخارجي ـــ هذه ـــ والتي استمدها الكاتب من حقل الخيال العلمي، ومن ظاهرة “الأطباق الطائرة”. تلك الظاهرة الكونية المحيرة، التي من أبرز ما يدور حولها، أنها كائناتٌ فضائيةٌ أكثر ذكاءً من الإنسان، وأنها لا تأتي إلى الأرض إلّا للاطلاع على خصائص الحياة البشرية فيها. وبذلك، فالراوي الخارجي ــ في هذا العمل ــ “كائنٌ فضائيٌّ”، يثير انتباهه ضجيج الأرض. يقترب منها؛ فيفزعه عذابها الإنساني. اضطلع برواية القليل من هذا العذاب، وترك للشخصيتين “شمسان”، و”عيبان” مهمة سرد كثيرٍ من تفاصيله.

نسقٌ مسرحي

التقتْ التّقنيات الفنية ــ التي تقوم عليها الرواية وسردية الفنون المتعددة التي تشابكت فيها ــ في نسق المسرحية، التي سُردت أحداثها على لسان الفنّان التشْكيلي. تلك المسرحية، التي ــ منها وإليها ــ تداعت التقنيات التشكيلية والمسرحية والسينمائية والسردية، في إنجاز العمل. وكان آخر المشاهد فيها، هو الذروة التي بلغها التماهي بين الرواية وسردية الفنون المتعددة، ففي هذا المشهد تضمينٌ للنهاية التي وصل إليها بطل المسرحية، المتمثّل في شخصية الفَنّانِ التَّشْكيْلي. تلك النهاية، التي وجَد نفسه فيها مقبوضًا عليه من المختصين في تقديم احتياجات الصحة النّفسية. وفي الوقت نفسه، كان بطلًا للفيلم السينمائي، الذي أنتجه “ديفيد” عن الصراع في اليمن، حيث يظهر “جوناثان” مستمتعًا بمشاهدة الفيلم طيلة ساعتين من حصته في استخدام الصالة. وفي الآن نفسه، يظهر مُتلصّصًا عليه “ديفيد” من غرفته، مُشاهدًا الفيلم مثله حتى نهايته المتوّجة بمصير البطل وقائمة طاقمه الفني.

يستهلّ “ديفيد” استخدام دوره في الانتفاع بالصالة، وفي تلك اللّحظة، يصل الأخ “برنْت”، إلى المكان نفسه، ومنه يلج إلى غرفته، التي كان الثقب في بابها نافذةً له، تمكّن من خلالها من التلصُّص ــ هوَ الآخَر ــ على أخيه “ديْفيد”، وهو يُعيد مُشاهَدةَ الفِيلم نفسه. 

إضاءة

كثيرًا ما تتكرر المشاهد والتجارب الإنسانية، التي تحيل على رؤية أجسام مجهولة طائرة. لذلك؛ فقد صارت هذه الظاهرة سياقًا من سياقات البحث العلمي. إذ تُكرّس كثيرٌ من الجهود والدراسات؛ بحثًا عمّا يمكن من خلاله الوصول إلى تفسيرٍ لهذه الظاهرة الغريبة.