المرأة والمِحطاب في القرية اليمنية علاقةٌ لم ينلْ منها الزمن(1)
من الأعمالِ التي تكاد أن تكون مقصورةً على المرأة الريفية في اليمن العملُ في جمع الحطب. لذلك؛ فبين المرأة اليمنية و”المحطاب” علاقة متقادمة. لا سيما أن الغاز لم يدخل في منظومة الحياة اليمنية، إلّا مع اكتشاف النفط. وقد أعلنت شركة “هنت” الأمريكية، عن أول اكتشافٍ تجاري صيف 1984م، في قطاع مأرب/ الجوف. ومثلها أعلنت شركةُ “تكنو أكسبورت” السوفيتية، عن اكتشاف النفط في محافظة شبوة عام 1987م.
بين الغاز و”الحطب
كانت المدينة اليمنية هي الأسرع انتقالًا إلى استخدام الغاز ـــ بعد اكتشافه ـــ كوقودٍ بديلٍ للخشب والفحم. ومن ثمّ ــ ببطءٍ ــ وجد طريقه إلى القرى المحيطة بالمدينة. ثم إلى القرى البعيدة، حتى وصل إلى بعضٍ من القرى الموغلة في ريفيّتها.
وعلى ذلك، لم تعتمد عليه القرية اليمنية اعتمادًا كليًّا. ولم تستغن المرأة اليمنية عن “المحطاب”؛ فالحطب يُعدُّ وقودَ الطهو السائد، لدى كثيرٍ من الأسر الريفية، التي تُشَكّلُ ما نسبته (75%) من سكان اليمن.
ويُقدّر حجْمُ استهلاك وقود الخشب الجاف سنويًّا، في اليمن، بثلاثة ملايين و(240) ألفَ طنٍّ. منها: مليونان و(807) آلاف طن، يُستخدم فيها الحطب كوقود. و(260) ألف طن (فحم نباتي) لأغراض تجارية. و(173) ألف طن فحم نباتي للاستخدام المنزلي. بحسب ما جاء في تقرير الاستراتيجية الوطنية للتنوع الحيوي والخطة التنفيذية للجمهورية اليمنية 2004م، الصادرة عن وزارة المياه والبيئة.
خصائص الأمكنة
يتضمن “المِحْطَاب”، في المحكية اليمنية دلالةً خاصّة على الحطب، الذي يُجمعُ على شكل مستطيل. والجمع منه على صيغة “مَحاطِيب”.
وتحرص المرأة الريفية في اليمن، على جمع الحطب، كمهمة نابعة، من صميم عملها المنزلي. تتفانى في تشكيل مستطيلاته، التي تمنحها شعورًا بالأمان المشوب بزهوٍ غير خفيٍّ في عينيها، كلما انتهت من إنجاز واحد من “محاطيبها”.
من صور هذا العمل، أن تجري تفاصيله في أماكن قريبة من القرية، كأقدام الجبال، والأجزاء السفلية من سفوحها، ومثلها الروابي والتلال. والأشجار الخضراء ــ في هذه الأمكنة ــ غير متاحة إلّا للمرأة المنتميةِ إلى أسرة لها نصيب في امتلاكها. أمّا الأغصان اليابسة المتساقطة، فهي مما يعد متاحًا للمرأة، وإنْ لم يكن لأسرتها نصيب في هذه الملكية.
وفي سفوح الجبال البعيدة ــ وشعابها، وغيرها من الأماكن البعيدة، التي يتوافر فيها الحطب ــ تبدو صورةٌ أخرى لهذا العمل. وفيها ينحسر التمايز في خاصية الامتلاك، فكلّ امرأة متاحٌ لها جَمعُ الحطب، بنوعيه: أعوادًا يابسة، وأغصانًا خضراء. مع عدم إغفال التأثير المحدود للأعراف الاجتماعية، فيما يتعلق بالحدّ من احْتِطابِ الشّجر الأخْضر. ويكون زمن الاحتطاب من الأماكن البعيدة أكثر تحديدًا، فقد يكون الصباح الباكر، أو العصرية. ويغلب أن تكون العصاري هي فضاءه الزمني.
من حينٍ إلى آخر، قد يتيَسّر للمرأة الريفيةِ الحصولُ عَلى بعضٍ من الكميَّاتِ المحدُودةِ من أعواد الحَطَب، بقَليْلٍ مِن الجُهْدِ المبْذول، الذي لا يتجاوز عملية جَمْع أغصان الأشجار، وجذورها. من مثل جمع أشْجارٍ، اقْتلعها سيْلٌ مِنْ سيُولِ فصْل الصَّيْف، وخَلّفها وَراءَه. أو جَمْعِها لما تقتلعه الجرافات، التي يستعين بها الملّاك، في استصلاح التلال والشعاب.
مراحل الاحتطاب
تأتي خاصيةٌ أخرى للاحتطاب من الأماكن البعيدة، تتمثّل في اتّسام العمل فيها بالجماعي، لا الفردي. فمثل هذه الأماكن، ليس في مستطاع المرأة الذهاب إليها بمفردها. لذلك؛ تنتظم في سِرْبٍ من نساء القرية وفتياتها، يصلن معًا، ويحتطبن معًا على مسافات متقاربة.
قِلَّةٌ من النساء ــ في هذه الأماكن البعيدة ــ مَنْ تستخدم “المنجل”، وفي حالات محدودة. أمّا السائد، فهو استخدام اليدين المحميّتين بقفازاتٍ بلاستيكية مناسبة. كلُّ واحدة مِنْهُنَّ، تبذل طاقتها في نزع فرُوعٍ من الأشجار الصغيرة والمتوسطة. وما يتعذر عليها اقتلاعه، قد تُجْدي معه رفسَةٌ من قدمها؛ فينقلع من جذوره الرافلة بالتراب، الذي سرعان ما يتم التخلُّص منه.
وبعد احتطابها كميةً كافية، تأتي عملية الجمع والتكسير، بما يتناسب مع المعتاد من شكْلٍ لحزمةِ الحطب، التي يتمُّ حملُها على الرأس. تلك الحزمة، التي تستعين المرأة على ضغط حجمها برفسةٍ طويلةٍ، متزامنة مع عمليةِ حزمِها بالحبل. الذي يكون قد أُعدّ، بما يتناسب مع هذه النوعية من الاستخدام. حيث يتمُ عَقْدُ ما يشبه حلقة صغيرة في أحد طرفيه، فيها يلج طرفُه الآخر، مشدودًا نحو المرأة بكلتا يديها. وبمثل هذا الإجراء، تضفي المرأة على حُزمة الحَطَبِ نوعًا من التماسُكِ، والتّرابُطِ، والحجمِ المناسب.
ثم تأتي عملية دحرجة الحزمة، إلى حافةِ صخرٍ متوسط الارتفاع. ومن اتجاه الحافة، تقترب من حزمتها المُهيّأة بوضعيةٍ رأسية. ثم بكلتا يديها ترفعها، لتستقر على قطعة قماشية مُعَدّةٍ سلفًا، ومثبَّتة على هيئة عجلة صغيرة في منتصف الرأس. وظيفتها الحماية من ثقل الحمولة، ومن الآثار المؤلمة، التي يمكن أن تتسبب فيها خطواتُ السير، في طريق العودة.
سرب الإياب
ومثلما تكون لحظة الذهاب جماعية، تكون لحظة الإياب. إذ تكون النساء ــ جميعهنَّ ــ قد استكملنَ العمل. كما يكُنّ في وضعيةِ الاستعداد للانطلاق.
يتشكل بهنّ مشهدُ الإياب في لحظات الغروب، نازلاتٍ في السفوح، بصفٍّ واحد، يتعرج وفقًا لما تستلزمه خصائص الطريق والتواءاته. وعلى رأسِ كلِّ واحدة منهنّ حزمة كبيرة من الحطب. يتناسب حجمُها مع قدرة صاحبتها، التي ليس في مستطاعها إنجاز أكثر من حزمةٍ واحدةٍ في عصرية كل يوم. وكلما كان حجمُ الحزمة كبيرًا، نالت صاحبته إعجابًا وتميزًا في عفوية النظرة الاجتماعية.
مستطيلات الحطب
مصيرُ حزمة الحطب، هو التموضع في المكان، الذي سبق أن اختارتْه صاحبتها بعناية. غالبًا ما يكون في جهة المنزل الخلفية. تنشئ “المحطاب” حزمةً حزمة، حتى يستوي اكتمالهُ بِقِطَعِ الخشبِ الكبيرة التي تعتليه طوليًّا، على طول امتداده. وذلك؛ ليزيد ثباتًا وتماسُكًا في أجزائه. ثم تضيفُ “محطابًا” ثانيًا، وقد يُضافُ “محْطَابٌ” ثالثٌ. لا سيما حينما تُوْكِلُ الأسرة هذه المهمةَ إلى أكثر من فتاةٍ من فتياتها. في حال كان لدى الأسرة أكثر من فتاة.
ولمستطيلاتِ الحطب ــ بهيئتها هذه ــ وظيفة ثانوية. ذلك، في توفيرها على المرأة اليمنية حبال الغسيل. فعلى هذه المستطيلات تَنْشُرُ الثياب فور غسلها، وتتكفل بهذه الوظيفة خاصيةُ الفراغات، بين الأعواد وفروع الأغصان الصغيرة المتشابكة.
بين الاستهلاك والاحتراف عملًا
إن الاستهلاك المنزلي للحطب هو ما تجتهد المرأة الريفية في الوفاء به. ونسبةٌ محدودةٌ جدًا ــ من الريفيات المنتميات إلى الطبقات الأشد فقرًا في المجتمع اليمني ــ هُنّ مَنْ يتخذنَ من الاحتطاب عملًا ثانويًّا لغير الاستهلاك المنزلي. كأن تبيع إحداهُنّ حمولةَ سيارةٍ مكشوفةٍ مما لديها، بثمنٍ قد يصل ــ أحيانًا ــ إلى ما يعادل (50) دولارًا. أو أن تُزَوِّد فتَاةٌ فقيرةٌ امرأةً ميسورةَ الحال بحزمة من الحطب، بين الحين والآخر. مقابل هدايا، أو مبلغٍ بسيطٍ من المال، عادةً ما يندرج ــ ذلك ــ في سياقِ المودة، أكثر منه في سياق العمل والسخرة.
الرجل والحطب
لا يعني ارتباط عمل الحطب بالمرأة ــ في القرية اليمنية ــ استبعاد مشاركة الرجل فيه. على ما في مشارَكَتِهِ من محدوديّةٍ، تستَلْزمُها بعضُ الحالات. التي يكون فيها الاحتطاب، من النوعيات التي لا يكون مستطيعًا عليها إلّا الرجل. من ذلك، أن يكون مكان الاحتطاب بعيدًا جدًّا عن القرية، مسافةً ليس في مستطاع المرأة قطعُها راجلة. أو ممّا يصعب عليها الوصول إليه. وعمل الرجل في الاحتطاب مختلفٌ عن عمل المرأة، فاستخدام “الفأس” و”المنجل” خاصيةٌ جوهرية فيه. وهو ما تفرضه نوعية الحطب، ذي الأعواد السميكة، غير المقدور عليها إلا بـ”الفأس”، أو “المنجل”. خلافًا لاحتطاب المرأة، المعتاد أن يكون أشجارًا صغيرة ومتوسطة، ذات فروع نحيفة، في مستطاعها اقتلاعُها.
- د. عبده منصور المحمودي، “السفير العربي”، بيروت، 28 ــ 10 ــ 2021. ↩︎