سيادة الزيف وانزواء الحقيقة مقاربة نقدية في رواية الكاتب المصري أشرف العشماوي الجمعيةالسرية للمواطنين

سيادة الزيف وانزواء الحقيقة مقاربة نقدية في رواية الكاتب المصري أشرف العشماوي الجمعية السرية للمواطنين

سيادة الزيف وانزواء الحقيقة مقاربة نقدية في رواية الكاتب المصري أشرف العشماوي “الجمعية السرية للمواطنين”

د. عبده منصور المحمودي

اعتادت السرديات الأدبية وغير الأدبية ــ في الغالب ــ على تقديم الصراع بين الثنائيتين المتناقضتين (الحقيقة/ والزيف). في أنساقٍ ذات قصديةٍ فاعلةٍ في التعاطي مع الحقيقة؛ بوصفها ضحيةً لسطوة الزيف. ومن ثم صيرورة الصراع بينهما إلى نهايةٍ، تكاد أن تكون نمطيةً. فيما تقوم عليه، من تضافرِ عددٍ من المتغيرات. التي يترتب عليها إفراغُ الزيف من عوامل قوته، وإضاءةُ الحقيقة بانتصارها عليه. لكن رواية “الجمعية السرية للمواطنين”(1)، غايرت هذا الاعتياد. إذ لم يتخذ فيها كاتبها أشرف العشماوي ــ من هذا الاتّجاه ــ نسقًا في تسريد فكرتها الروائية.

فلسفة الواقع وضمنيّة التصالح

لقد اجترح العشماوي نسقًا خاصًّا، في تقديمه لديناميكية الصراع بين هاتين الثنائيتين. استند فيه إلى فلسفة الواقع، التي يتجسد فيها نوعٌ من ضمنية التصالح الموارب بينهما؛ تداعيًا مع سياقات الحياة والسلوكيات الاجتماعية. تلك السياقات، التي لا إشكالية لديها في قبول (الزيف)، على محمل (الحقيقة)، المتوارية خلف اشتراطاتٍ، تمنحه حيويته وهيمنته السائدة.

وعلى هذه الفلسفة الواقعية، كانت الإحالةُ في صياغة عنوان العمل “الجمعية السرية للمواطنين”. بما في هذه الصياغة، من دلالةٍ على ما وصلت إليه واقعية الصراع، من مستوىً متقدمٍ في كيانٍ اجتماعي (جمعية). تحكم ــ هذا الكيان ــ لوائحُ ونُظُمٌ خاصة. وفيه “السريّة” واحدٌ من مكوناته الرئيسة، الفاعلة في تجاوز الزيف للحقيقة بأدوات الحقيقة نفسها. من خلال أحداثٍ متجانسةٍ، ارتبطت بشخصية العمل الرئيسة معتوق رفاعي. كما ارتبطت بشخصياتٍ ثانوية متعددة، من أهمها: غريب أبو إسماعيل. زهرة، بنت معتوق. فتحي السماوي، صيّاد الكلاب. فارس عودة، مصلح المجاري. زكي الساكت، كنّاس الحي. المعلم غالي، التاجر المشبوه.

وجرت أحداث الحكاية، في حيِّزٍ مكانيّ، اقتصر على حي “عزبة الوالدة”، في ضواحي حلوان، جمهورية مصر العربية. وحيز زمانيٍّ، امتد ما بين سبعينيات القرن العشرين الفائت 1976 والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين.

إثباتًا للزيف لا انتصارًا للحقيقة

يستهل العمل سرديته لواقعية الصراع بين الحقيقة والزيف، من الرغبة الإنسانية في ردم الفجوة بين قطبي الحياة الاقتصادية (الغنى/ والفقر). إذ كانت هذه الرغبة دافعًا لمعتوق، في تداعيه مع فكرة صديقه غريب أبو إسماعيل. تلك الفكرة، التي قدّمها إليه، نصيحةً فيما يمكن أن يستثمر فيه ما يمتلكه من موهبة الرسم.

بدأ تداعي معتوق مع هذه الفكرة، بموافقته على رسم لوحاتٍ، يوقّع عليها غريب بمقابلٍ ماديّ. فيتوارى مبدعها الحقيقي (معتوق). ويظهر مبدعها المزيف (غريب).

ثم تأتي الخطوة الثانية في اتّفاق معتوق مع غريب، على العائد من عملية التزييف التي تولاها معتوق، فيما قام به من محاكاة لوحة الفنان العالمي (فان جوخ) “زهرة الخشخاش”. وهي إحدى مقتنيات متحف “محمد محمود خليل”. ثم قيامه بإحلالها محل اللوحة الحقيقية، بطريقة زائفة، خدع بها حراس المتحف، فتمكن من تنفيذ مهمته. وعاد باللوحة الحقيقية، إلى صديقه غريب، الذي استحوذ على ما قبضه من ثمن بيعها خارج الوطن.

تتكشف بُنية الصراع في السياقات السردية بانتقالاتٍ زاخرة بالحيوية. من ذلك، صدمة معتوق، حينما سمع خبر مغادرة غريب المفاجئة، إلى وجهة غير معلومة، قبل أن يُسلّمه نصيبه. وبعد أشهر من البحث والتقصي، وصل إليه. لكنه لم يصل معه إلى تسويةٍ مُرضِيَة. فانفتحت السردية ــ بذلك ــ على مساراتِ صراعٍ متجدد. كما انفتحت ــ من جهةٍ أخرى ــ على سياقٍ جديد، من مواراة الحقيقة بسيادة الزيف. تداعى معتوق ــ في هذا السياق ــ مع التاجر المشبوه المعلم غالي. الذي اقترح عليه استثمار موهبته في رسم أوراق مالية. يقوم هو ــ من خلالها ــ بعملية تبييض أموال تجارته.

حِدّة التسريد المتنامي

التقطت الملكة السردية ما تمثله الحقيقة ــ المتعلقة بعملية المتحف ــ من ورقةٍ مهمةٍ لدى معتوق. فيما لو قرر استخدامها في مواجهة غريب. وهنا، يحتدُّ تسريد الصراع في استباق غريب لتوظيف هذه الحقيقة. من خلال إزاحته لها بزيف جديد؛ إذ كلّف مَنْ يسرق اللوحة البديلة ــ نفسها ــ من المتحف. ثم عمل على أن تُوَجّه أصابع الاتهام نحو معتوق، وبذلك أُلقي القبض عليه.

اعترف معتوق بأنه هو من قام بسرقة اللوحة الأصلية، وإحلال محلها لوحة مزيفة، هي التي سُرقت. لكن اعترافه هذا بالحقيقة، كان إثباتًا للزيف لا برهانًا للحقيقة. فبه انتصرت اللوحة المزيفة المسروقة، وثبَتتْ عليه التهمة. ولم يخرج من السجن إلا بعد سنوات عشر. حينما قرر غريب ترسيخ الزيف في اللوحة المسروقة حقيقةً جديدة. ذلك، من خلال تجنيده شخصًا اعترف بالجريمة، مُدعيًا التوبة، أعاد اللوحة، فثُبِّتتْ زيفًا في مكان الحقيقة المسروقة.

كانت في انتظار معتوق ــ بعد الإفراج ــ قصة جديدة من قصص سيادة الزيف وانزواء الحقيقة. فمن أجل المحافظة على سمعة ابنته زهرة ومستقبلها من وصمة أب سجينٍ متهم بالسرقة، توافقت الضمنيات الاجتماعية على مصادرة حقيقة أبوّته لها. كما توافقت ــ هذه الضمنيّات ــ على التعويض عنه بخالها أبًا رسميًّا، “مثل كل لوحاته لم تعد زهرة معتوق رفاعي تُنسب له، لم تعد ابنته في الأوراق الرسمية .. صارت زهرة موسى زيدان”(2).

ثم تحين لحظة زواجها. فتعزز هذه اللحظة من سيادة الزيف وانزواء الحقيقة؛ “”تلك اللحظة شعر فيها معتوق بأنها سُلبت منه إلى الأبد. لم يعد موسى سارقها الأول والأخير. صار هناك رجلٌ آخر سيتشارك فيها معهما. وربما تلد أطفالًا ثم يصير لها أحفاد، باسمها الجديد واسم عائلة زوجها. ستكون هناك أسرة مزيفة لكن الناس ستصدقها، سينال وحده جزاء الكاذب الذي أفرط في الكذب. فلن يصدقه أحد إذا قال الحقيقة بعدها ولو لمرة واحدة في حياته”(3).

تجانسٌ رسمي وشعبي

لم تكن إشكالية سيادة الزيف وانزواء الحقيقة مقصورة على المستوى الشعبي وحده. فهي ــ في هذا المستوى ــ امتدادٌ لتجذُّرها في المستوى الرسمي؛ إذ ظهرت في سياسة المؤسسات التي يسطو المسؤولون فيها على الموارد العامة. حيث يسود ــ في هذه المؤسسات ــ زيفُ المشاريع الوهميّة؛ بوصفها حقائقَ، يتشارك الجانبان الرسمي والشعبي في تمريرها. فيتنامى التماهي بينهما، في تصدير الزيف وتعتيم الحقيقة.

ومن أهم صور هذا التماهي، تلك الصورة الماثلة، في اتساع نشاط معتوق الخاص برسم الأوراق المالية. إذ استقدم آلة طباعةٍ خاصة، فتسارعت وتيرة العمل. كما تخلّقت في ذهنه فكرةُ تأسيس جمعية سرية للمواطنين. سرعان ما بدأ بتنفيذها. أطْلَع أعضاءها على حقيقة نشاطه. لم يعترضوا عليه؛ فليس من السهل عليهم التفريط بما تم إقراره لهم فيها من استحقاقٍ مالي شهري ثابت، تحت تسميات نبيلة. كلها كانت تسميات قائمة على ما يسعى إليه معتوق، من غاية الارتقاء بهم من واقعهم البائس.

أثرى العمل سرديته، بالتفاصيل التي أفضت إليها أنشطة الجمعية المتنوعة. وهي أنشطةٌ تجمعها إشكالية سيادة الزيف وانزواء الحقيقة. فنمت موارد الجمعية بشكل لافت. شجّع إدارتها على تبني الإسهام في تنمية البنية التحتية الثقافية، في حي “عزبة الوالدة”. وهو ما صادف تناغمًا رسميًّا، في سياق التوافقات الضمنية بين الجانبين الرسمي والشعبي.

لكن لم تدم تلك التوافقات بين الجانبين، بعدما تقاطعت مصالحهما. حاول الجانب الرسمي الاستقواء على الآخر الذي واجهه قضائيًّا. فكانت تلك المواجهة كافية لتسليط الضوء على جمعية معتوق. أُلْقِي القبض عليه ثانيةً، لم يخرج التحقيق باعترافٍ كافٍ. لذلك؛ اضطر المحققون إلى أن يصحبوه معهم، في عملية المداهمة لمنزله. لكن آلة الطباعة ــ التي يبحثون عنها ــ كان أعضاء الجمعية، قد نقلوها إلى مكان آمن. وتحت الضغط الشعبي الجاد، تحرر معتوق من قبضتهم. التي عادت خالية الوفاض منه، ومن أي دليلٍ ملموس، يمكن به إثبات التهمة عليه.

جوهر الصراع واستيعابه السردي

لقد عملت السياقات السردية في رواية الجمعية السرية للمواطنين، على تسريد سيادة الزيف وانزواء الحقيقة. في الحيز الاجتماعي المكاني والزماني، الذي سُردتْ فيه أحداثها. بما في هذا الحيز، من رمزيةٍ لشمول البلد كله، بإشكالية الصراع الواقعي بين ثنائيتي (الحقيقة/ والزيف). ومن ثم اتّساع هذه الرمزية؛ لتشمل بلدان العالم الثالث، بوجه عام.

كما تمايز العمل من سرديات هذا الصراع، بصيغة التعاطي غير الاعتيادية. فلم تنتصر فيه الأنساق السردية لطوباوية الحقيقة، وما يؤول إليه اضطهادُها من انتصارٍ ختامي. كما لم تنتصر ــ في الآن نفسه ــ لنقيض الحقيقة (الزيف).

وبذلك، فقد عملت الصيغة السردية الجديدة ــ التي اختطّها أشرف العشماوي في عمله هذا ــ على استيعاب جوهر الصراع على حقيقته الواقعية المعيشة. تلك الحقيقة، التي يهيمن فيها الزيف وتنزوي الحقيقة؛ انسجامًا مع السياقات الاجتماعية المتصالحة مع صيغة الصراع هذه. بما فيها سيادة (الزيف)، وصيرورته سلوكًا اجتماعيًّا عامًّا. وكذلك، صيرورته نسيجَ حياةٍ حافلة بمظاهره. تلك المظاهر، التي تباركها الضمنية في الثقافة الاجتماعية. بما هي عليه ــ هذه الثقافة ــ من توافقٍ على ما في الزيف من جدوى واقعية، بعيدة عن استراتيجية القيم. التي تتعالى على استشراء المعاناة، في الهامش الاجتماعي.

إضاءة

هذه الرواية حائزة على جائزة كتارا للرواية العربية في دورتها التاسعة 2023، ضمن قائمة فئة الروايات المنشورة. بمعية رواية “الحرب”، لمحمد اليحيائي، ورواية “أنت تشرق أنت تضيء” لرشا عدلي.

  1. أشرف العشماوي، “الجمعية السرية للمواطنين”. الدار المصرية اللبنانية. 2023م. ↩︎
  2. نفسه، ص98. ↩︎
  3. نفسه، ص156. ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *