خصائص التجربة السردية في روايات وجدي الأهدل

خصائص التجربة السردية في روايات وجدي الأهدل

خصائص التجربة السردية في روايات وجدي الأهدل

د. عبده منصور المحمودي

تقوم روايات الكاتب وجدي الأهدل ــ فنيًّا ــ على عددٍ من الخصائص والتقنيات، التي تتبلور من خلالها بُنيةٌ فنيةٌ خاصة بتجربته السردية الروائية.

ويتفاوت استئناس الكاتب بهذه التقنيات بين تقنية وأخرى، وعلى ذلك يترتب بروزُ مجموعةٍ منها أكثر من غيرها. وهو ما تسعى هذه المقاربة النقدية، إلى تحليل أهم هذه الخصائص والتقنيات، التي تنوعت بين: المفارقة، والرمزية، والفانتازيا، وتعدد الأصوات السردية.

[1] نسق المفارقة وبُنية العنوان

أبرز ما يمكن ملاحظته على صياغة العتبة الأولى، في روايات وجدي الأهدل، هو توظيف نسق المفارقة. بما هي عليه هذه التقنية، من ماهية فاعلة في النَّسْجِ بين الإحالات على فضاءات متعددة؛ ذلك أنها لعبةٌ ماهرة وذكية، يُقَدّمُ النص من خلالها بطريقةٍ تثير القارئ، وتدعوه إلى رفض معناه الحرفي، لصالح المعنى الخفي، الذي غالبًا ما يكون المعنى الضد(1).

[1ــ1]: تآلف المتناقضات

يمثل الجمع بين المتناقضات بُعدًا من أبعاد نسق المفارقة؛ إذ قامت صياغة عنوان رواية “قوارب جبلية”(2)؛ على الجمع بين معطياتٍ مختلفة البيئة والمرجعية الطبيعية، فالقوارب من الآليات الخاصة بالطبيعة المائية بحورًا أو أنهارًا، لكنها هنا انتقلت إلى طبيعةٍ جبلية، حينما صارت هذه الطبيعة صفة من صفاتها.

وتحيل هذه المفارقة ــ في عنوان الرواية ــ على مادتها السردية، الزاخرة بسلسلةٍ من المفارقات والتناقضات التي اجتمعت في بيئةٍ اجتماعية واحدة، فانعكس اجتماعُها صورًا من سلبية العلاقات بين أفراد المجتمع، كالعنف والظلم والتعسف وانتهاك حقوق الإنسان، وما في سياق ذلك من صور قاتمة.

وقد كان الجمع بين المعطيات غير المتجانسة فاعلًا، في صياغة بُنية العنوان في رواية “حمار بين الأغاني”(3)، الذي اجتمعت فيه طبيعتان مختلفتان: الطبيعية الحيوانية، والطبيعة الإنسانية. في مشهدٍ ظهرت فيه الطبيعة الإنسانية مُتَجَسِّدةً في واحدٍ من المعطيات المرتبطة بها (الأغاني)، التي تجسّدت ــ هي الأخرى ــ في صورة ملموسة، يتمكن فيها الحمار المنتمي إلى طبيعةٍ مغايرةٍ، من المرور بين تفاصيلها، لا الاستماع إليها فحسب.

وقد كان نسق المفارقة ــ في هذا العنوان ــ نسيجًا مُتجانسًا مع ما يحيل عليه من مضامين سرديةٍ، حافلةٍ بسياقاتٍ متناقضةٍ في كثيرٍ من مظاهر الحياة وعلاقاتها المتشابكة، التي تعمل الثقافة الاجتماعية السائدة، على نسج التآلف الغريب فيما بين أقطابها.

واستند نسق المفارقة في صياغة عنوان رواية “أرض المؤامرات السعيدة”(4)، إلى البُعْدِ التاريخي والحضاري، الكامن في التسمية التاريخية لليمن: “أرض اليمن السعيد”، أو “بلاد العرب السعيدة”. فتمخضت هذه الصياغة، عن مقابلةٍ ضمنيةٍ بين الماضي والحاضر، وبين خصائص كلٍّ منهما: (زهو الماضي ونعيمه/ وبؤس الحاضر وتعاسته). مع احتفاظ الحاضر بصفة السعادة المشاكسة لتعاسته، فأضفت هذه المفارقة على السياق السردي طابعًا من السخرية، الهادفة إلى استيعاب الواقع بمعطياته ومتغيراته المتناقضة، التي قامت عليها البُنية السردية، في هذه الرواية.

[1ــ2]: ثنائية الأرض والسماء

تمثّل ثنائيةُ (الأرض والسماء) بُنيةً مركزيةً، في صياغة عتبات العناوين في روايات الأهدل الثلاث: “بلاد بلا سماء”(5)، “أرض المؤامرات السعيدة”، “السماء تدخن السجائر”(6).

ويبدو نسق المفارقة ــ بين هاتين الثنائيتين ــ ماثلًا في صيغة العلاقة بينهما. وهي في جوهرها علاقة موسومة بالهشاشة؛ تداعيًا مع السياقات السردية المرتبطة بهما. فلفظ (السماء)، في رواية “بلاد بلا سماء” لا يتضمّن الدلالة على (الحضور)، وإنما الدلالة على النقيض (الغياب)، مقابل انفراد (الأرض/ البلاد) بالسياق الاجتماعي بمعزلٍ عن (السماء).

وفي هذه المغايرةِ إحالةٌ على هشاشة العلاقة بين السماء والأرض؛ إذ كانت هذه الهشاشة أكثر عمقًا وإيحاءً في صياغة عنوان رواية “أرض المؤامرات السعيدة”. كما كانت أكثر تصدعًا في عنوان رواية “السماء تدخن السجائر”، بما في هذه الصياغة من دلالةٍ على المصير المأساوي الذي آلت إليه الأرض.

ويظهر عمقٌ فلسفي في ثنايا هذه العلاقة الملتبسة، ينطوي على مقابلةٍ ضمنية، بين ما تكتنزه السماءُ من دلالةٍ على العدالة والإنصاف، والنسق الأيديولوجي الذي يُمثّل هذه الدلالة في الأرض، فيحدّ من الجرائم والانتهاكات فيها. لكنها تبدو مفرغة منه، مثخنةً بتداعيات غيابه.

لقد كان نسق المفارقة فاعلًا في صياغة العتبات الرئيسة الأولى، في روايات وجدي الأهدل (العناوين)، فمن خلاله أثّثت سرديةُ المضامين الروائية مواقفَ، تتآلف فيها المتناقضاتُ بصور مختلفة. كما تضمّن نسقُ المفارقة موازنات ضمنية، هدفت إلى سَبْرِ العلاقات الملتبسة بين سياقات متداخلة، تنوعت بين: مسارات فكرية وأيديولوجية، وسلوكياتٍ إنسانية، وبُنىً ثقافية متباينة.

[2]: نسق الرمزية السردية

تقوم التجارب الأدبية ــ في مفهومها العام ــ على استثمار الرمزية ضِمْنَ آليات الكتابة الإبداعية. كما أن الرمزية ــ في مرجعية مادتها ومضامينها ــ أكثر ارتباطًا بالكتابة الشعرية من سواها؛ فالشعر “جهدٌ تعبيريّ يحتشد بدلالاتٍ رمزيّة تتفاوت حيويّةً وفرادةً من شاعر إلى آخر”(7).

وعلى ذلك فإن هذه التقنية ــ في جوهرها الفني ــ مأهولة بما يُمكّنُها من استيعاب الرؤى السردية في الكتابة الروائية، حينما يمتلك الكاتب مهارةَ تطويعها لاشتراطات جنسه الأدبي. وهو ما قام عليه توظيف هذا النسق الفني في هذه التجربة الروائية، إذ كان امتلاك صاحبها لهذه المهارة واحدًا من مقومات الكتابة في تجربته السردية.

ولأن أهمية الرمزية كامنةٌ في تجاوزها لماهيتها الفنية إلى الفضاءات الفكرية، وإلى التعاطي مع الرؤى التأملية، لتثري اللغة وتسد عجزها، وتكشف عن زوايا غامضةٍ في النفس البشرية(8). فإن هذه التقنية قد استوعبت في رواية “قوارب جبلية”، عددًا من المعاني والرؤى، التي أُثْرِيَت بها سياقاتها السردية؛ إذ أحالت عليها بتضمينها عددًا من الرموز، التي تتشكل بها أنساق الحياة في “باب اليمن”.

وتسرد رواية “بلاد بلا سماء” حكاية الشابة المتعلمة المثقفة “سماء”، التي اختفت بعدما تعرضت لسلسلة من مواقف التحرش، حاول عاشقها وجارُها الشاب البحث عنها، فانتهزت الثقافة الاجتماعية موقِفَهُ، لتواري فيه عجزها، مُتَّخِذَةً منه هدفًا، ألقت عليه عبء تهمة الاختفاء، وبها قضت عليه.

وقد كان توظيف نسق الرمزية ــ في تسريد هذه الفكرة وصياغة موضوعها الروائي ــ غايةً سعت إليها قصدية الرؤية السردية، التي رغب الكاتب في العمل عليها؛ من خلال تضمين أطرافها أبعادًا رمزية، فكانت المرأة التي تتعرض لظلم المجتمع وقسوته رمزًا لليمن التي يُسيء إليها أبناؤها. وكان الشاب الباحث عن الفتاة رمزًا لليمني، الذي يفكر في إصلاح وضع بلاده، فيكون إخلاصه سببًا في القضاء عليه.

[3]: نسق الفانتازيا السردية

الاستئناس بالفانتازيا في السياقات السردية تقنيةٌ مهمة في تسريد المضامين في روايات وجدي الأهدل؛ إذ استطاع من خلالها التعاطي مع معطياتٍ متجاوزةٍ المألوفَ إلى المستوى الغرائبي في الإدراك الإنساني.

من تجليات هذا النسق الفني، ما قامت عليه كثيرٌ من البُنى السردية في روايته “قوارب جبلية”؛ إذ امتزجت فيها المعالجات السردية، بكثيرٍ من المعطيات الغرائبية والفانتازيا.

وظهرت الفانتازيا في روايته “حمار بين الأغاني”. ضمن نسقٍ من الغرابة التي تجانس فيها مساران مختلفان: الأول حلم شخصية الرواية “ثائرة” بتفاصيل مقتلها. والثاني المسار الواقعي، الذي اتّسَق في تفاصيله مع المسار الأول. وحينما تعذر التماس الربط المنطقي بين المسارين، اضطلعت الفانتازيا السردية بإنجازه؛ بوصفها آليةً من آليات الكتابة، ذات المغزى التفسيري لما لا سبيل إلى واقعية إدراكه الموضوعي.

واستهدفت السياقات السردية في رواية “فيلسوف الكرنتينة”(9)، التعاطي مع واقعِ مجتمعٍ عربيٍّ، تعبث فيه آليات التخلف، وتهيمن عليه السلطات الطاغية؛ فكانت الفانتازيا نسقًا جوهريًّا في تسريد أحداث الرواية؛ إذ استوعبت ــ من خلاله ــ بشاعة هذا الواقع في مواقف غرائبية، اختلطت فيها الطبيعتان الإنسانية والحيوانية، حينما تحول أفراد الطبيعة الأولى إلى كائنات دودية، تعيش في مقبرة الطغيان الديكتاتوري الحاكم.

وفي رواية “بلاد بلا سماء”، استند الكاتب ــ في توظيفه لنسق الفانتازيا ــ إلى بُنية الثقافة الاجتماعية السائدة، الحافلة بالغيبيات، والاعتقاد بعالم الكائنات الماورائية، وطوائف الجان؛ إذ اختفت شخصية الرواية “سماء” تحت شجرة الرمان، حينما أقبل عليها شخص ذو مواصفات أسطورية. استدرجها إليه، فاختفت في أوراق كتابه الذي فتحه لاحتوائها، ولم يعثر أحد عليها بعد ذلك.

وقد تجسّدت فاعلية الثقافة الشعبية في التعاطي مع مجريات الحياة، فيما اتَّخَذَتْهُ أسرة الفتاة من سُبلِ البحث عنها؛ إذ كان باب “الشعوذة” هو الباب الذي طرقه أهلها، بإيمانٍ وثقةٍ فيما يمكن أن يصلوا إليه من خلاله. أخبرهم “المشعوذ” أن عفريتًا قد اختطف ابنتهم عند تلك الشجرة، وأن عليهم التفاوض معه، في المكان نفسه، ومطالبته طيلة ثلاثة أيام بإعادتها. فعلوا ما أشار عليهم به، لكن من غير جدوى، فأمرهم بإحراق الشجرة، ففعلوا.

وفي رواية “أرض المؤامرات السعيدة”، يصل مسار النمو، في تسريد قضية اغتصاب الطفلة من شيخٍ قبليٍّ، إلى موقفٍ منسوجٍ بالفانتازيا والغرائبية، يحكم فيه القضاء بأن الطفلة هي من اغتصبت الشيخ. وفي ذلك، تتجلى النهاية الصادمة ذات الطبيعة الكاريكاتورية، التي تقوم ماهيتها على أنساق تعبيرية، مكتنزة بتصوير المعنى المراد، في قوالبَ من المبالغة المتجاوزة للحدود الواقعية، التي تؤطّر الرؤية المراد تسريدها. ليس من أجل المبالغة نفسها، وإنما توظيفًا للكوميديا السوداء، في استيعاب قتامةِ واقعٍ، تجاوز فيه الظلم الحدود الإنسانية كلها.

والتمست بعضٌ من سياقاتِ رواية “السماء تدخن السجائر”، هذا البعد التعبيري، فاستوعبت فيها الفانتازيا السردية فكرةَ دخولِ سمكةٍ أنفَ إنسانٍ غريق، ينجو، فيتعايش مع بقائها في رأسه ومع ما يأتيه من إشارتها وإيحاءاتها.

[4]: نسق تعدد الأصوات السردية

تمثّل آلية التعدد في الأصوات السردية واحدة من الخصائص الفنية المحيلة على مَلَكَةِ الكاتب في تمثُّل كل شخصية من شخصياته، على ما فيها من تباينات واختلافات وبنُى فكرية وثقافية غير متطابقة. وقد ظهر في تجربة وجدي الأهدل الروائية ما يحيل على امتلاكه زمام هذه الملكة السردية، وبوجه خاص في روايتيه: “بلاد بلا سماء”، و”السماء تدخن السجائر”.

في الأولى منهما تنوعت الشخصيات، فتنوعت رؤاها، كما تنوعت سياقات حديثها عن قضية اختفاء “سماء”، فتكاملت رواية الأحداث من زوايا متعددة، بتعدد المرجعيات الثقافية وتنوعها بين الأصوات السردية.

وفي الثانية ــ رواية “السماء تدخن السجائر” ــ تنوعت بُنية السياقات السردية في مضامينها وأحداثها، التي تداعت في حياة شخصياتها، وما ترتب على ذلك من تنوعِ في المصاير. فتجانست محوريةُ هذا التنوع مع تنويع الكاتب لأصواتها السردية، التي تعددت، في سياقِ رواية الشخصيات لتفاصيل حياتهم اليومية.

تحيل البُنية السردية في روايات وجدي الأهدل، على أنساقٍ متعددة من الرؤى السردية، التي تبلورت من خلال تسريد أحداثٍ متداخلة المرجعيات متقاطعة التداعيات. وهو ما أفضى إلى التماس الكاتب مساراتٍ فنيةٍ، متسقةٍ مع منظومة الحياة اليمنية، ومع ما تسعى إليه تجربته من تعاطٍ أدبيٍّ مع مضامينَ إشكاليةٍ فيها.

وبهذا المسار من التسريد المتجانس مع خصوصية الواقع المَرْوِي، تشكلت البُنية الفنية الخاصة بهذه التجربة، فتنوعت تقنياتها السردية، بين أنساق المفارقة، والرمزية، والفانتازيا، وتعدد الأصوات السردية. لتتكامل في هذه البُنية الفنية خصائصُ الكتابة السردية، التي اتسمت بها هذه التجربة الروائية.


  1. نبيلة إبراهيم، “فن القص بين النظرية والتطبيق”. ط1، مكتبة غريب، القاهرة، 1995،  ص198. ↩︎
  2. وجدي الأهدل، “قوارب جبلية”. ط2، رياض الريس، بيروت، 2002. ↩︎
  3.  وجدي الأهدل، “حمار بين الأغاني”، ط2، سلسلة آفاق عربية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2011. ↩︎
  4. وجدي الأهدل، “أرض المؤامرات السعيدة”، دار هاشيت أنطوان ــ نوفل، بيروت، 2018. ↩︎
  5. وجدي الأهدل، “بلاد بلا سماء”. ط2، دار التنوير، بيروت، 2012. ↩︎
  6. .وجدي الأهدل، “السماء تدخن السجائر”. ط1، دار هاشيت أنطوان، بيروت، 2023. ↩︎
  7. علي جعفر العلاق، “في حداثة النص الشعري”. ط1، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1990، ص56،55. ↩︎
  8. أحمد قاسم أسحم، “الرمز في الشعر اليمني المعاصر”. مكتبة أبي حامد، تعز، د.ت، ص8. ↩︎
  9. وجدي الأهدل، “فيلسوف الكرنتينة”، ط1، مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، 2007. ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *