النقد المنهجي ومآخذ الرؤى والأفكار

النقد المنهجي ومآخذ الرؤى والأفكار

النقد المنهجي ومآخذ الرؤى والأفكار

د. عبده منصور المحمودي

أول جهدٍ تأسيسي لمسار النقد المنهجي في الفكر العربي والثقافة العربية، يعود إلى ابن المعتز، الذي “ساعد على خلق النقد المنهجي بتحديده لخصائص مذهب البديع”(1).

ومن خلال الوقوف على نماذج من كتابات الأستاذ الدكتور عباس السوسوة ودراساته، يتجلّى فيها نسقٌ من النقد المنهجي، الذي يقوم على طبيعةٍ خاصة به، تنحو منحى الخصوصية، التي تتشكّل بنوعية كتابات السوسوة، ومرجعية دراساته اللغوية.

وبمعنى آخر، فالمراد بالنقد المنهجي عند السوسوة، هو ما قدمه من إسهامٍ في نقده لمنهجية المؤلفين، وما قدمه من ملاحظاتٍ على طرائق تعاملهم مع المعرفة، وكيفية تقديمهم الحقائق للقارئ، ومثلها كيفية تعاملهم مع مراجع أبحاثهم ومصادرها.

[1ــ1]: ثقافة منهجية شاملة

إذا كان الناقد المنهجي، والباحث عن الحقيقة “ينبغي أن يتسلح بثقافةٍ منهجية عميقة وشاملة، وإلا كان التعصب، والنظرة الأحادية البعد، هما الصفتين المهيمنتين على فكره وعقله وأسلوبه في التعامل”(2)، فإن عباس السوسوة قد أتيحت له فرصة ثقافةٍ منهجيةٍ، إلى جانب ثقافةٍ عامةٍ مفتوحةٍ. متأتيةٍ من قراءاته واهتماماته المتنوعة، التي كانت وراء ما جاء من نقدٍ منهجيٍّ في أعماله وكتاباته(3). لذلك؛ فهو عندما يقرأ أي شيءٍ، يقرأه قراءة نقدية، ويبدي عليه ملاحظاته وتعليقاته النقدية. يقول:

“عندما أقرأ في دورية أو في كتاب، أقرأ الشيء وأتحاور معه، والقلم بيدي، فإذا أوحي إليَّ العنوان، أو أوحى إليَّ النص كاملًا، أو الفقرة أحيانًا، فإن ذلك يذكرني بأشياء من مخزوني، فأعلق عليه وأذكر شيئًا مقابلًا، أو مؤيدًا، أو معارضًا”(4).

[1ــ2]: أهم ما يستوقف السوسوة في قراءاته

في محاورته لما يقرأ تستوقف السوسوة بعض الأمور، فيعلق عليها. من مثل تعليقاته على التنافر والتناقض الذي يقع فيه بعض الكُتاب. وكذلك تعليقه على تعامل الكتاب مع المصادر والمراجع، يقول:

“الذي يلفت نظري التناقض والتنافر، فأحاول أن أبينه، وأن أكشفه، كذلك استخدام الكاتب للمصادر والمراجع، والأفكار التي يأتي بها، أهي من عندياته هو؟! أم أنه أخذها من غيره من دون أن يقول إنها لغيره”(5).

ومما يثيره في قراءاته، تعالم الكُتاب وتعاليهم على القراء، فيعلق على أمثال هؤلاء تعليقاتٍ تهكمية، يكشف بها عن هذا التعالي والتعالم، وهو ما يشير إليه بالقول:

“بعضهم يحاول أن يستهبل القارئ وأن يتعالم عليه، وهذا من أشد الأشياء التي تثيرني، وهذا النوع الذي يتعالم على القارئ لا أمنع نفسي من التهكم عليه”(6).

كذلك تستوقفه أقوال ورؤى السلف أو رؤى المعاصرين المشهورين، التي يتعامل معها الباحثون والكتاب على أنها مسلماتٌ من دون أن يخضعوها للفحص والتدقيق؛ للتأكد من صحتها أو عدم صحتها، يقول:

“هناك أقوالٌ كثيرة وأمورٌ كثيرة غير صحيحة، لكن لأننا عشنا على تقليد السلف، سواءٌ كان السلف من القرن الثاني أو الثالث الهجري، أو حتى من المعاصرين لنا… هم أكبر منا سنًّا، أو أكبر في التخصص، يُؤخذ كلامهم مسلمات، في حين أننا نحتاج إلى فحص هذه المسلمات، أهي مسلمات أصلًا، أم لا؟”(7).

وفي ضوء هذه المسارات، التي سار عليها النقد المنهجي عند السوسوة، جاءت إسهاماته في هذا المجال من النقد، فتناول بالنقد بعض الأفكار والرؤى، التي يتبناها الكُتاب والمؤلفون؛ استنادًا إلى ثقافةٍ أحادية أو نظرةٍ تعصبية. إذ يقف من هذه الرؤى موقفًا موضوعيًّا، ويفندها استنادًا إلى تعارضها مع واقع المعرفة، وقوانين المنطق والفكر السليم. كما أبدى ملاحظاتٍ على منهجية تحقيق بعض المحققين، ولاحظ مآخذ على بعض التراجمة، كما علق على مصادر ومراجع المؤلفين والباحثين، وعلى تعاملاتهم المعرفية مع مواد هذه المصادر والمراجع. بما في ذلك تعامل القراصنة مع جهود غيرهم. وكذلك دور النشر الناهجة ــ في بعض إصداراتها ــ منهج القرصنة على جهود الآخرين.

[2]: نقد الأفكار والرؤى

في نتاج عباس السوسوة النقدي، تفنيدٌ لرؤى وأفكار بعض المؤلفين والكتاب، وكذلك نقدٌ للآليات التي يتم بها عرض هذه الرؤى والأفكار.

[2ــ1]: النسق المضمر

في بحثه “عن النسق المضمر في تاريخ الأدب العربي”، تناول الدكتور عباس السوسوة أثر التحيزات الاجتماعية والعرقية والثقافية، في صياغة وبناء الرؤى والأفكار عند بعض المؤلفين والكتاب. لذلك؛ يشير إلى أن هذه التحيزات مكتسبة من الأسرة والمجتمع، ويشترك فيها المثقف وغير المثقف(8). وقد عبر عن هذه التحيزات بما اصطلح عليه الناقد عبد الله الغذامي “النسق المضمر”، فيقول: “وهذا النسق يتضمن صورة (الانا) في تجلياتها المختلفة، في مقابل صورة (الآخر) في تجليات عرقية أو قومية أو مذهبية”(9).

وصورة (الأنا) ــ هذه ــ بالنسبة إلى الأنا نفسها إيجابية. في حين صورة الآخر بالنسبة إلى الأنا غير إيجابية. وهذا ما ظهر في تعامل مؤرخي الأدب العربي مع غير العرب، الذين انتصر عليهم العرب، وعاشوا معهم متشاركين أمور الحياة كلها، بما في ذلك الثقافة والفكر والأدب.

ويتناول اثنين من مؤرخي الأدب العربي، الذين أثر فيهم “النسق المضمر” ــ هذا ــ كما أثر في إنتاجهما ورؤاهما في تأريخهما للأدب العربي، هما: محمد مصطفى هدارة، وشوقي ضيف(10).

ومن تلك الرؤى، التي أثر فيها “النسق المضمر”، رؤية شوقي ضيف في “أن اللغويين ينفرون من الاستشهاد بأشعار المكيين من مثل عمر بن أبي ربيعة وعبد الله بن قيس الرقيات، فقد كانوا لا يوثقونهم ولا يعدونهم فصحاء؛ لهذا الاختلاط بالأعاجم الذي صاروا إليه”(11).

فهذه الرؤية المبنية على نسقٍ مضمر، ووجهة نظرٍ مسبقة في الأعاجم، يجدها السوسوة بعيدة عن الواقع؛ إذ إن في كتب ومؤلفات اللغويين ما يدل على استشهادهم بشعر هؤلاء. ومن ذلك ما جاء من شواهد لهذين الشاعرين في معجم “لسان العرب” لابن منظور، (الذي ضم خمسة معاجم قبله)، ففيه شواهد للمذكورَين في أربعة من الكتب التي أدرجت فيها(12).

ويضيف دليلًا آخر لتفنيد هذه الرؤية، هو ورود شواهد لهذين الشاعرين في كتب النحو. ومن ذلك “كتاب” سيبويه: “إمام النحاة، وهو قريب العهد بزمن هؤلاء… نجد في الكتاب ثمانية عشر شاهدًا لعمر بن أبي ربيعة، وأربعة شواهد لعبد الله بن قيس الرقيات”(13).

وبذلك؛ لم يكن الاختلاط بالأعاجم هو الذي أبعد شعرهم عن الاحتجاج؛ إذ “لو كان الاختلاط سببًا في الرفض لما وجدنا للأعشى الكبير ولا لعدي بن زيد العبادي ولا للنابغة الذبياني شاهدًا في كتب النحو”(14).

[2ــ2]: إحياء كتابة السيرة النبوية في مصر

في عرض السوسوة ونقده لكتاب “كتابة السيرة النبوية عند رفاعة الطهطاوي”، لمؤلفه الدكتور سامي سليمان أحمد، يعترض على زعم المؤلف أن الطهطاوي أحيا كتابة السيرة النبوية في مصر، فيقول:

“يزعم أن الطهطاوي أحيا بعد أربعة قرونٍ من الانقطاع كتابة السيرة النبوية في مصر. ونقول: لا داعي لتخصيص مصر بذلك وإلا فهل ابن اسحاق والسهيلي من مصر؟ وإذا جاريناه كنا مخطئين فقبل الطهطاوي طُبعت في مصر سيرتان: الأولى من تأليف نور الدين علي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي “975 ــ 1044هـ”  وعنوانها “إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون” وعلى حواشيها سيرة أخرى كتبها أحمد بن زيني دحلان “1232 ـ 1304هـ ” ولم يأتِ للسيرتين ذكر في الكتاب والجدير بالذكر أن الدحلانية ألفت عام 1278هـ أي قبل تأليف “الإيجاز””(15).

والسوسوة ــ هنا ــ يفند هذا الزعم، مستدلًا بوجود مَنْ أحيا كتابة السيرة النبوية قبل الطهطاوي. والمُلاحَظ على عرضه ونقده لهذا الكتاب، أنه أورد هامشًا تعريفيًّا بالمؤلف، ذكر فيه: لقبه العلمي، ومهنته، ومكان عمله، وثمانية أبحاث قال إنها أهم الأبحاث المنشورة للمؤلف(16). وهو لا يعرّف بمؤلفي الكتب التي نقدها باستثناء هذا الكتاب، وكتاب “ببليوجرافيا الرسائل العلمية”(17).

وإذا كان في نقده لأفكار ورؤى بعض المؤلفين والباحثين، يخالفهم في ما ذهبوا إليه، فإنه يؤيد ويتفق مع ما يذهب إليه آخرون من أفكار ورؤى. من ذلك ما جاء في بحثه، “أزاهير وأشواك وكهرمان”، الذي كتب فيه ملاحظاتٍ على أبحاثٍ ومقالاتٍ نُشرت في عددٍ من أعداد مجلة “جذور”، من تأييدٍ لباحثٍ، أثبت عدم صحة مقولة أن الزمخشري تلميذٌ لعبد القاهر الجرجاني. فيقول مؤيدًا ما وصل إليه هذا الباحث:

“دأب المحدثون على القول إن الزمخشري في الكشاف مجرد تلميذ يطبق أفكار عبد القاهر في النظم، غير أن الأستاذ رشيد برقان أثبت، دون تعسف، عدم صحة ذلك، من خلال المقابلة بين عمليهما، وقد نجح في ذلك جدًّا. ونحن نزكي ما قال”(18).

وما وصل إليه هذا الباحث هو تفنيد ونقدٌ لفكرةٍ متداولة بين الباحثين، مثله كمثل الأفكار التي يفندها السوسوة؛ لذلك جاء تأييد السوسوة هنا ما وصل إليه الباحث من تفنيدٍ لتلك الفكرة.

[2ـ3]: ملاحظات نقدية مقتضبة

إذا كان السوسوة في نقده للأفكار والرؤى والأحكام يعلق عليها، متفقًا معها أو مخالفًا، ومعللًا هذا الاتفاق أو الاختلاف بإجراءاتٍ موضوعية، فإنه لا يفعل ذلك في مخالفته أو رفضه لأحكام ورؤى في بعضٍ مما يتناوله من تلك الرؤى والأحكام، وينبه إلى ذلك أحيانًا بأنه واعٍ برفضه هذا دون تعليق، فينصُّ على أنه سوف يورد أحكامًا يرفضها من دون تعليق. من ذلك ما جاء في تناوله لمحاضرة محمد أبي الأنوار (التراث الشعري ودوره في مراحل تطور الشعر العربي)، في بحث (ملاحظات مفتش نظافة سويسري)، إذ يقول: “ونأتي الآن إلى بعض أحكامه التي لن نعلق عليها، مكتفين برفضها”(19). ومن تلك الأحكام:

“إن نظرية النظم التي أبدعها عبد القاهر الجرجاني طورها من بعده الفخر الرازي”(20). فالسوسوة هنا لم يعلل رفضه لهذا الحكم، وتعليل رفض هذه الأحكام فيه إثراءٌ وتوضيح للفكرة المنقودة، حتى وإن كان التعليل بدهيًا عند بعض المتخصصين في التراث البلاغي للغة العربية، فإنه غير بدهيٍّ عند بعضٍ آخر من القراء ذوي الميول والتخصصات غير المرتبطة بالبلاغة العربية.

  1. محمد مندور، “النقد المنهجي عند العرب، ومنهج البحث في الأدب واللغة”. دار نهضة مصر، القاهرة، د.ت، ص: (61). ↩︎
  2. مجموعة من الباحثين، “زهرة الآس في فضائل العباس”. ط1، دار المناهل، وزارة الشؤون الثقافية، المغرب، 1417هـ ــ 1997م، جـ1/ ص: (215). ↩︎
  3. .من المقابلة التي أجراها معه الكاتب، في يوم الأربعاء: 16 جمادى الأولى 1429هـ ــ 21 مايو 2008م. ↩︎
  4. نفسه. ↩︎
  5. نفسه. ↩︎
  6. نفسه. ↩︎
  7. نفسه. ↩︎
  8. عباس علي السوسوة، “عن النسق المضمر في تاريخ الأدب العربي”. مجلة علامات، إصدارات النادي الأدبي الثقافي بجدة، العدد (51)، مجلد (13)، محرم 1425هـ ــ مارس 2004م، ص: (101،100). ↩︎
  9. نفسه، ص: (101). ↩︎
  10. نفسه. ↩︎
  11. نفسه، ص: (118). وانظر: شوقي ضيف، “الشعر والغناء في المدينة ومكة لعصر بني أمية”. ط5، دار المعارف، القاهرة، 1992م، ص: (223). ↩︎
  12. نفسه. ↩︎
  13. نفسه. ↩︎
  14. نفسه، ص: (119). ↩︎
  15. عباس علي السوسوة، “كتابة السيرة النبوية عند رفاعة الطهطاوي، عرض ونقد”. صحيفة الثقافية، تعز، العدد (222)، 18 ديسمبر 2003م، ص: (14). ↩︎
  16. نفسه، هامش الصفحة. ↩︎
  17. انظر: عباس علي السوسوة، “ببليوجرافيا الرسائل العلمية في الجامعات المصرية منذ نشأتها حتى نهاية القرن العشرين، الأدب والبلاغة والنقد الأدبي”. تصنيف ودراسة: محمد أبو المجد البسيوني، عرض ونقد. مجلة عالم الكتب، الرياض، العدد المزدوج (2،1)، 1425هـ ــ 2004م، ص: (319). ↩︎
  18. عباس علي السوسوة، “أزاهير وأشواك وكهرمان” مجلة جذور، إصدارات النادي الأدبي الثقافي بجدة، العدد (21)، المجلد (9)، رجب 1426هـ ــ سبتمبر 2005م، ص: (127). ↩︎
  19. عباس علي السوسوة، “ملاحظات مفتش نظافة سويسري”. مجلة جذور، النادي الأدبي الثقافي بجدة، العدد (6)، مجلد (3)، رجب 1422هـ ــ سبتمبر 2001م، ص: (525). ↩︎
  20. نفسه. ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *