الأسطورة والبنية السردية في رواية “يوريديس في ليلة الرازم”
من فضاءات التجديد، في التجربة السردية المعاصرة، توظيفُ ما يمكن توظيفُه من أبعاد الثقافة الشعبية. ويأتي ذلك؛ استثمارًا لما في هذه الثقافة من خصوبةٍ وثراء وامتدادٍ متقادم إلى بدايات التاريخ الإنساني. وما في هذا التقادم من اكتنازِ حيويّةٍ تفسيرية، لما تعثرتْ في استيعابه محطاتٌ مختلفة من تاريخ الحياة البشرية.
وإذا كان التوظيف الفني لأبعاد الثقافة الشعبية، غالبًا ما يأتي رغبةً في إنجاز نوعٍ من التكثيف والاختزال والإيحاء. فإن ذلك هو ما يبدو أكثر اتساقًا وتناغُمًا مع بُنية الرواية القصيرة “النوفيلا”. ذلك؛ لأن المبدأ الذي يغلب عليها هو “تكثيف الأحداث، أما الرواية فالمبدأ [فيها] هو الإسهاب”(1).
ويفضي التأمل في آلية الاشتغال على السياقات السردية ــ في رواية الكاتب اليمني المقيم في فرنسا حميد عقبي “يوريديس في ليلة الرازم”(2)، التي تنتمي إلى رواية “النوفيلا” ــ إلى مقاربةٍ، تحيل على محورية التوظيف الأسطوري، في بُنيتها السردية.
“أورفيوس”، و”يوريديس”
استلهمت البُنية السردية في هذه الرواية أسطورة “يوريديس”، و”أورفيوس”. ومن خلال ذلك، استوعبت المرجعية الأسطورية نسقًا من الرمزية إلى كل محبوبة وفتاة مسحوقة بظلام التواري. ذلك هو ما تجلّى، في رمزية السياقات السردية في متن العمل. كما تجلت هذه الرمزية السردية ــ نفسها ــ في أولى عتبات الرواية (العنوان/ “يوريديس” في ليلة الرازم”). ومثلها ما تضمنته عتبة الإهداء، من إحالةٍ على هذا النوع من النساء: “إلى كل يوريديس، تسعى إلى النور رغم قسوة وقبح العتمة”(3).
تشير بُنية تلك الأسطورة، إلى أن “أورفيوس”، منشد الجبال، وقع في حب الحورية “يوريديس”، التي توفيت يوم زفافهما. ومن أجل استعادتها، ذهب “أورفيوس” إلى العالم السفلي، حتى أذنتْ له ــ بعد رحلة شاقة ومضنية ــ آلهةُ العالم السفلي باسترجاعها. شريطة أن يمشي من دون أن يلتفت إلى ورائه. لكنه لم يستطع الوفاء بالشرط؛ فخسرها ثانيةً. وعاد ــ بعد خسارته تلك ــ إلى عالم الأحياء، الذي عاش فيه بقية حياته. حتى وفاته على يد عابدات الإله “باخوس”، اللواتي قطّعْنهُ إربًا، فسبح رأسه مرددًا اسم حبيبته(4).
بين يدي “يوريديس”
وظفت السياقات السردية هذه الأسطورة، في تسريد بعضٍ من تفاصيل العلاقة بين الحبيبين: (الشخصية الرئيسة “مسيو”/ ومعشوقته القديمة “فردوس”). لا سيما تسريد إشكالية الفراق الذي عصف بهما. لقد ترك “مسيو” حبيبته في بلده الأم، ورحل عنها إلى بلد المهجر. لكنه ــ على ذلك ــ ظل مشدود العاطفة إليها، يحلم بلقائها، ويتمادى في أحلامه ــ تلك ــ حتى وجد نفسه في لقاءٍ جمعه بها؛ فاحتار فيه؛ إذ انشطر لديه بين الحقيقة والخيال.
تعاطى العمل ــ من خلال الشخصية الأسطورية “يوريديس” ــ مع حال “مسيو”، وارتباكه وتشظي تجربته، وامتداد هذه التجربة إلى علاقةٍ جديدة، جمعته بشخصية الأسطورة “يوريديس”، التي توزعت هويتها على أكثر من هيئة؛ إذ يشير إلى ذلك، متحدِّثًا إليها: “رأيتك للمرة الأولى في محل بيع الورد والزهور بملبس بائعة الورد، ثم زي نادلة، وبعد ذلك مشجعة كرة سلة، وأخيرًا زي كاهنة؟”(5).
تنامى تسريد حال “مسيو”، في وعاءٍ من الكينونة الهُلامية، التي ظهرت بها شخصية “يوريديس”. تلك الشخصية، التي لاذ بها “مسيو”، وأخبرها بكثيرٍ من تفاصيل تجربته العاطفية مع “فردوس”. حاولت “يوريديس” أن تفسر له بعضًا مما أُشكل عليه، ولامست فيه ارتباكه بين الحقيقة والحلم، حينما تحدث إليها عن أحدث لقاء جمعه بمعشوقته “فردوس”، فأكدت ما يعيشه من التباسٍ بين الواقع والخيال. كما فاجأتْه بمعرفتِها بعضًا من تفاصيل خصوصية تلك العلاقة التي مزّقها الفراق.
تماهي التجربتين: السردية والأسطورية
تحدث “مسيو” مع “يوريديس” عن حاله. وعن كثيرٍ من أنساق تجربته العاطفية المغدورة. بما تمثّله تلك التجربة من مركزيةٍ للتجربة السردية في هذا العمل. ولم يقف استحضار هذه الشخصية الأسطورية، على توظيفها في استيعاب تلك التجربة السردية، بل امتد إلى الكشف عن بعضٍ من التجربة الأسطورية في علاقة الحب بين طرفيها الأسطوريين (“يوريديس”، و”أورفيوس”). لا سيما ما ورد من ذلك على لسان “يوريديس”. كما في هذه الإشارة السردية، التي تضمنت إحالةً على محطة الخذلان التي فشل فيها الحبيب؛ إذ تقول موَجّهةً الحديث إلى “مسيو”:
“كبرَ سني الآن منذ خذلني أورفيوس. لم يُكرِّرْ محاولته لانتشالي من مملكة الظلمة أو يقنع آلهة ذلك الزمانِ لإطلاق سراحي. فعلَ محاولةً واحدة فشلتْ في اللحظة الأخيرةِ. كان بيني وبينَ النور خطوةٌ واحدةٌ، كنتُ أسير وراءه، لكنه التفت. أنت بالتأكيد تعرف القصة. العالم كله يعرفُها، لكنكم قد لا تعرفون معنى الخلودِ في العتمةِ والانتظارِ. لا شيء إلا الانتظار”(6).
وتنطوي هذه الإشارة على مستوى من التماهي بين التجربتين: (السردية: “مسيو”، و”فردوس”)، و(الأسطورية: “أورفيوس”، و”يوريديس). كما ينطوي هذا التماهي على نسق من التقاطع بين التجربتين في المصير المشترك، الذي تجسد في معنى الخلود. ذاك المعنى الكامن في عتمة الانتظار اللانهائي. الذي تجلّى خلودَ انتظارٍ في حالي الحبيبتين: (“يوريديس”، و”فردوس”). كما تجلّى جهلًّا بجوهر معنى الخلود ــ نفسه ــ في حالي الحبيبين: (“مسيو” و”أورفيوس”).
وفي سياق ذلك، يأتي المصير الواحد، الذي يفضي إليه جهلُ هذين الحبيبين. ذاك المصير الذي تتوارى فيه تجارب الحب، خلف قوة المال الفاعلة في صياغة أنساقٍ جديدة من العلاقات العاطفية. وهو ما تشير إليه “يوريديس”، متحدثةً عنه إلى “مسيو”: “يمكنك أن تكون لديك خليلة في كل زاوية، افتراضية أو حقيقية، طالما لديك المال الكافي لترضي الطموحات، كما كان يفعل أورفيوس ورفاقه. كل شيء صار صفقة. المال يفتح الأبواب، موني، موني… والكثير من القلوب أيضًا يفتحها المال والموني. لكن، هل المال كافٍ؟ أوه، لا تقل لي إنك تؤمن بأن الحب ما زال حيًّا!”(7).
شتات الثقافات والأمكنة
كشف توظيف هذا الوعاء الأسطوري عن حال “مسيو”، المسكون بالشتات والتمزق بين هويتين. تنتمي الأولى منهما إلى الماضي. الذي تحيل الرؤية السردية على حيزه المكاني في اليمن، حيث عاشت الشخصية الرئيسة شطرًا من حياتها. بينما تنتمي الهوية الثانية إلى الحاضر. بماهيته المكانية المتمثلة في فرنسا، بلد المهجر، الذي تعيش فيه الشخصية ــ نفسها ــ حياتها الحديثة. تلك الحياة، التي اندمجت في الأسطورة، في نسق من الإحالة على تجربة الشتات. وهو ما تضمّنه تقديم الدكتور حاتم الشماع، لهذه الرواية؛ إذ يشير إلى “أن اندماجها بين الأسطورة والحداثة، والشخصية والسياسية، والواقعية والتجريد يجعلها استكشافًا عميقًا لتجربة الشتات”(8).
وقد تعددت السياقات السردية، التي استوعبت تجربة الشتات ــ هذه ــ في فضاءٍ من التمايز بين الثقافات والأمكنة. ذاك التمايز، الذي ينتظم في مسارين. يتعلق الأول منهما بالقيود الثقافية الخاصة بالبلد الأم (اليمن/ المشرق). وقد أشارت “يوريديس” إلى هذه القيود في ثقافة “مسيو”؛ إذ حدثتْه عن ذلك، قائلة: “أنت محكوم أيضا بأعراف شرقية، بطاقةٍ مدنيةٍ وحالةٍ اجتماعيةٍ، فلستَ حرًّا بما تعنية الحريةُ الكاملةُ المطلقة”(9).
أما المسار الثاني، فمتعلق بثقافة الحاضر، الذي يعيش فيه “مسيو”، في بلد المهجر (فرنسا). بما في هذا الحاضر من اضطراب، ومخاوف، ونزعة مادية جارفة للجوهر الإنساني. يقول عن حال اغترابه تلك: “أنا هنا في عالم تتعقد فيه العلاقات الإنسانية وتضطرب بسرعة، خوف وتنامي التيارات العنصرية، كل شيءٍ أصبح للاستهلاك وأشعر أن موتي يقترب”(10).
لقد تجلى ــ في هذا العمل ــ الاشتغال السردي على توظيف البعد الأسطوري في استيعاب التجربة السردية، وتكثيفها. ومن ثم تشبيكها مع التجربة الأسطورية، حدّ أن تتماهى كل منهما في الأخرى. لا سيما ما انطوى عليه هذا التماهي من مصيرٍ متجانسٍ، في كلتيهما: مصير العاشق الفاشل في استعادة حبيبته، ومصير المعشوقة، المتوارية في خلود الانتظار.
- محمد عبيد الله، “الرواية القصيرة في الأردن وفلسطين: بنية الرواية القصيرة: دراسة، نصوص، أنطولوجيا”. ط1، دار أزمنة، عمان، 2007م”، ص46. ↩︎
- حميد عقبي، “يوريديس في ليلة الرازم”. ط1، شبكة أطياف الثقافية للدراسات والترجمة والنشر، الرباط، 2024م. ↩︎
- .نفسه، ص3. ↩︎
- ينظر:
ــ حسام محيي الدين الآلوسي، “بواكير الفلسفة قبل طاليس أو من الميثولوجيا إلى الفلسفة عند اليونان”. دار الأمان، الرباط، 2017م، ص278،277.
ــ أوفيد، “مسخ الكائنات”. ترجمة: ثروت عكاشة. ط3، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1992م، ص215. ↩︎ - حميد عقبي، “يوريديس في ليلة الرازم”. مرجع سابق، ص51. ↩︎
- نفسه، ص28،27. ↩︎
- نفسه، ص36،35. ↩︎
- نفسه، ص9. ↩︎
- نفسه، ص30. ↩︎
- نفسه، ص10. ↩︎