الرمز في ديوان الشاعر الإماراتي كريم معتوق “قصائد من وادي عبقر”
تعاطى الشاعر الإماراتي كريم معتوق، في ديوانه “قصائد من وادي عبقر”(1)، مع نسق من الرمز الأدبي، ذي المرجعية الشعرية. في سياقين اثنين: الأول سياق التوظيف الرمزي لوادي “عبقر”. والثاني، سياق توظيف شخصيات شعرية حديثة راحلة، في استيعاب بعضٍ من تجليات الرؤية الشعرية في الحاضر المعيش.
[1ــ1]: “وادي عبقر” رمزية العنونة ونسيج النص الشعري
تتجلى حيوية الرمزية الأدبية، في توظيف “وادي عبقر”، في عنوان الديوان. ثم في امتداد هذه الرمزية امتدادًا فاعلًا، في تجسير العلاقة بين عتبة العنوان والمتن الشعري. الذي يمثّل العنوان الخارجي عنوانًا داخليًّا لواحدٍ من نصوصه.
وتحيل رمزية عتبة العنوان ــ خارجيةً وداخلية ــ على المهاد الفاعل في تشكيل التجربة الشعرية في هذا العمل (وادي عبقر). وبالإشارة إلى هذا المهاد، استهل الشاعر نص العنوان نفسه “قصائد من وادي عبقر”. فأورد في تقديمه له هذه الإضاءة:
“تقول الأسطورة إن وادي عبقر يسكنه الجن، فمن بات فيه ليلة سامر الجن، فإن طلع عليه الصباح، خرج منه شاعرًا أو مجنونًا، وكانت بعض القبائل من العرب يرسلون أحد أبنائهم ليبيت في الوادي على أمل أن يخرج منه شاعرًا”(2).
[1ــ2]: التماهي والتمثُّل
استنادًا إلى البعد الأسطوري في “وادي عبقر”، قام الاشتغال الشعري في هذا النص. بما فيه من انتصار الشاعر كريم معتوق لهذه الأسطورة، والعمل على التماهي فيها وتمثُّل فكرتها المحورية:
“سأسامِر الجنَّ العتاةَ
أُجنّ، أبقَى مثلهم
أو أنْ أمرّ بثقل ما خفّ المتاعُ كما أشاءْ”(3).
لقد اتخذ الشاعر قراره في اقتحام هذا العالم الماورائي (عالم الجنّ). على بساطٍ من الأخيلة، التي تسامر فيها مع كائناته:
“وصار الجنّ من حولي جميعًا يضحَكونْ
…..
رحبتُ في صوتِ الذي لا يعرف الخوف القديمَ
وقلتُ ما شرطُ المرورِ
لكي يمرّ العابرونْ
ويكون لي مِن صُحبة الوادي
كبير الجنّ لا أرضى بأصغر منه
لا أرضى بمنْ يتقافزونْ”(4).
لقد تنامت الحال الشعرية، فتماهت الذات الشاعرة في عالم الخيال المتناغم مع عالم “الجن”. الذين تحلقوا حول الشاعر، فتشجّع في فتح باب الحديث معهم، وأخبرهم بأن غايته من اقتحام عالمهم هي الظفر بقرينٍ منهم. ليتخذ منه صاحبًا له في أحواله الشعرية. تساءل عن السبيل إلى ذلك. فجاءه الرد منهم اشتراطًا عليه أن يجيب على تساؤلاتهم شعرًا. فلم يتردّد في القبول بشرطهم. وعليه، بدأ في التنفيذ، بردودٍ شعرية انسابت حتى نهاية لقائه بهم:
“الجن أعجبهم حديثي قال أكبرهم:
صباحًا تترك الوادي هنيئًا
سوف يصحبك “المُجلْجلُ”(5).
لقد نالت إجاباته الشعرية على استفساراتهم إعجابهم. ومن ثم نال الشاعر مبتغاه؛ إذ حقق غايته، فلم يعد من عالمهم إلًا بكائنٍ منهم. يُطْلَقُ عليه اسم “المُجلْجل”، سوف يصحبه في فضاءاته الشعرية، أينما حل وارتحل.
[2]: استحضار شخصيات شعرية راحلة
تجلّت شعرية الرمزية الأدبية ــ في هذا المحور ــ من خلال توظيف عددٍ من الشخصيات الشعرية العربية الحديثة الراحلة. لا سيما استحضار شخصياتِ أربعة شعراء، في أربعة نصوص، صيغت عناوينها بأمنية عودة شخصياتها الرمزية: (محمود درويش، البردوني، نزار قباني، محمد مهدي الجواهري).
[2ــ1]: “درويش” عائدٌ إلى مثواه
يلوح خيال الشاعر “محمود درويش”، محاولًا استيعاب ما حدث بعد وفاته، في النص المعنون بـ “لو عاد محمود درويش لقال”. ومنه قول الشاعر “معتوق”، على لسان هذا (الشاعر/ الرمز):
“هل من عودةٍ تأتي بُعيدَ الموتِ
أو ترفعُنا شبرًا إلى رأس السنابلْ
كم حفرنا كلمات الحبّ والسّلم
امتثلنا للتواقيع، انتظرنا زمنًا
تحت الصناديق ولم تأتِ الرسائلْ”(6).
لم يجد الشاعر “محمود درويش” ــ في هذا السياق من الرمزية الأدبية ــ أيّة إشراقةٍ، أو تقدمٍ في مصير القضية. كما لم يجد أيّة جدوى في المعاهدات والمواثيق وادّعاءات السلام. لقد وجد نقيض ذلك كله؛ إذ صُعق بوصول نزيف المأساة إلى مستوىً بالغ القسوة والألم والحسرة. لذلك؛ لم يجد سوى الرحيل ثانيةً إلى ملاذه، الذي جاء منه:
“فلْأَعُد للقبْرِ هذا مسرحٌ
يجرحُ أحلامَ رجالٍ بالثمانينَ مِن العمرِ
يعيدون مع التبغ حِكاياتِ بداياتِ الأوائلْ
وُيشيرونَ إلى الشرْقِ
يُطيلونَ عليه النظرَةَ الحُبْلَى رجاءً
ويقولونَ غدًا تأتي الجَحافِلْ”(7).
[2ــ2]: “البردوني” منكسرٌ باطراد المأساة
في النص “لو عاد عبد الله البردوني لقال”، يستوعب طيف الشاعر الراحل عبد الله البردوني أحوال وطنه الذي غادره بائسًا. إذ لم يتغير فيه شيء، فلا يزال الحزن مُطّردًا في محاولات بنائه(8):
من ألف قرنٍ حزينٍ يُبتنى وطنُ ** للحزنِ في الأرضِ اسمٌ آخرٌ: يَمَنُ
كما يتجلّى في النص توصيفٌ لإشكالية المعضلة اليمنية المتقادمة، في تحولات السلطة والحكم وتداعياتها في الحياة العامة(9):
منذ الخليقةِ لا “صنعاءُ” راضيةٌ ** بقسمة الحكم أو ترضى به “عدنُ”
كأنما سيق هذا الشعبُ مفردةً ** بين المعاني هواهُ الضيق والشّجنُ
ومن خلال هذا التوصيف الشعري ــ السابر لهذه الإشكالية الممتدة منذ أقدم العصور حتى اللحظة الراهنة ــ يتضح أن كل التحولات في بُنية السلطة والحكم، تفضي إلى تطويق الشعب بما يفاقم من ضيقه وبؤسه وأشجانه. وقد بلغت الشعرية شأوًا باذخ المعنى، في الانتقال بجموع الشعب من الطبيعة المادية المحسوسة إلى طبيعةٍ ذهنية. بعد أن تحولت ــ هذه الجموع ــ إلى مفردةٍ تائهة بين المعاني المنسوجة بالأسى.
[2ــ3]: “نزار قباني” والمأساة المتوالدة
يتضمّن النص “لو عاد نزار قباني لقال”، انكسار طيف الشاعر العائد من مثواه بواقعِ الشام ومآسيه:
“هنا نشرةُ الأخبارِ في دارِي وحَولَ الشامِ
عابسةٌ وكاذبةٌ وتُمْطِرُنا اكتئابْ
والناسُ في سُفُنٍ مِن المَطّاطِ والإسْفنجِ
تبحَثُ عن ذَهابٍ واحدٍ
ما فيه رائحةُ النّوايا للإيابْ
فكأنهم غَرْقَى يُسَيّرُهُم ضَياعٌ
للعذابِ، إلى الجحيمِ إلى السرابْ”(10).
هذه التفاصيل المؤلمة، انصعق بها (الشاعر/ الرمز). وهي تسحق وطنه، بؤسًا واغترابًا. وتتوه به هجرةً في المجهول، الذي قلّ مَن ينجو من بحاره المتلاطمة، في سياقيها: الحقيقي، والمجازي. ومثلما قرر (الشاعر/ الرمز) “درويش” العودة إلى قبره، اتخذ القرار نفسه (الشاعر/ الرمز) “نزار”:
“لا لن أمُدَّ إقامَتي
سأعودُ للقبْرِ الرحيمِ مِن الحياةِ بمَوْطني
هذا جحيمٌ فاجرٌ أنا لا أريدُ الاقترابْ”(11).
[2ــ4]: “الجواهري” وتشظّي العراق
يستحضر النص “لو عاد محمد مهدي الجواهري لقال” شخصية هذا الشاعر العراقي. ويستشف في خيال عودته انكساره بأحوال وطنه(12):
أبي العراقَ سَلامًا يا أخا عِلَلي ** وازَنْتُكَ الآنَ بينَ الفَخرِ والخَجَلِ
وكنتَ يا مَوطني مِلءَ اعتِدادِ فَمي ** وكان فيكَ انْكِساري فوقَ مُحْتَمَلي
آخَيْتَ بالحزنِ ما آخيْتَ في فَرَحٍ ** كأنك الطفلُ مفطومًا على الزعَلِ
تتضمّن هذه الأبيات، مفاجأة (الشاعر/ الرمز) العائد من عالم الأرواح بمأساة بلده، الذي يتمزّق بأحزان واقعه، وتشظي بُناه الاجتماعية والثقافية. كما يتعاظم فيه البؤس، وتتضاءل السعادة(13):
تقاصر السّعدُ حتى صار أنملة ** تعاظمَ الهمُّ حتى صارَ كالجَبلِ
وإنّه الآنَ بيتٌ دونَ أسقُفِهِ *** فلا يُنعّمُ مَن يَأويهِ بالظُلَلِ
[2ــ5]: بُنيةٌ فنيةٌ متجانسة
لقد شكّلت هذه النصوص الأربعة ــ التي استحضر فيها الشاعر هذه الشخصيات الشعرية ــ بُنيةً ذات خصائص فنيةٍ متجانسة. إذ جمع بينها التخييل الاشتراطي، الذي ارتبطت من خلاله الفضاءات الدلالية في النصوص بانبعاث شخصياتها ثانيةً (لو عاد … لقال).
كما قام كلّ نصٍّ منها، على نوعٍ من الاتّساق بينه وبين التجربة الشعرية الخاصة بشخصية (الشاعر/ الرمز). وبذلك؛ أحال هذا الاتساق على نسقٍ من استيعاب الذات الشاعرة لتجارب تلك الشخصيات. ومن ثم النسج على منوالها في استحضارها الرمزي، الذي تشكّلت به السياقات الشعرية في هذه النصوص.
كذلك، اتحدت هذه النصوص الأربعة، في سمة التوظيف الرمزي، الهادف إلى حالٍ من التأمل فيما آلت إليه الحياة، في كل بلد من بلدان هذه الشخصيات الرمزية. وعطفًا على ذلك، اتحدت النصوص الأربعة في عنصر المفاجأة، التي خضّت هذه الشخصيات، بما لم تتوقعه من متغيرات ومستجدات قاتمة، في بلدِ كلٍّ منها.
[2ــ6]: رمزية شخصيات مماثلة
إلى استحضار التجربة الشعرية ــ في هذا العمل ــ هذه الشخصيات الشعرية الأربع، يظهر استحضارٌ مماثل لشخصيات شعرية أخرى في سياقات مختلفة. منها ما ينتمي إلى الأدب الغربي، كاستحضار شخصية الشاعرين: “لوركا”(14)، و”نيرودا”(15). ومنها شخصيات شعرية عربية، كرمزية الشعراء القدامى: “قيس”(16). و”طرفة”، “وديك الجنِّ”، “وابن الورْدِ”(17). ورموز شعرية حديثة، من مثل استحضار شخصية الشاعر الراحل “أحمد شوقي”(18). بل والتوظيف الرمزي لشخصية شاعر هذه التجربة نفسه “كريم معتوق”(19).
[3]: الرمزية والرؤية الشعرية
لقد استأنست السياقات الشعرية في هذا الديوان، استئناسًا مركزيًّا بتقنية الرمز. واستوعبت من خلالها الرؤية الشعرية، التي تضافرت نصوصُ الديوان في إنجازها. فكان لـ “وادي عبقر” نسقُه الرمزي، وفضاءاته الإيحائية. ومثله كان نسق استحضار شخصيات شعرية عربية وغربية، قديمة ومعاصرة.
كما يتجلى نوعٌ من الاعتناء بالتقنية الرمزية، في الاستحضار الرمزي لشخصيات من حقول مختلفة. منها ما لا ينتمي إلى دائرة الرمزية الأدبية. من مثل الاستلهام الرمزي لشخصيات: “كسرى”(20)، و”قيصر(21). وشخصيات: “حاتم الطائي”(22)، و”سقراط”(23). ومثلها شخصيات كلٍّ من: “هابيل”(24)، و”قابيل”(25)، و”موسى”(26)، و”سليمان”، و”قارون”(27). وبذلك، فقد جسّدت تقنية الرمز نسقًا فنيًّا محوريًّا، في صياغة كثيرٍ من الأفكار والمضامين، التي استوعبتها التجربة الشعرية، في هذا العمل.
- كريم معتوق، “قصائد من وادي عبقر”. منشورات كريم معتوق، الإمارات العربية المتحدة، 2024م. ↩︎
- نفسه، ص130. ↩︎
- نفسه، ص131. ↩︎
- نفسه، ص133،132. ↩︎
- نفسه، ص151. ↩︎
- نفسه، ص102. ↩︎
- نفسه، ص105. ↩︎
- نفسه، ص106. ↩︎
- نفسه، ص107. ↩︎
- نفسه، ص113. ↩︎
- نفسه، ص117. ↩︎
- نفسه، ص118. ↩︎
- نفسه، ص121. ↩︎
- نفسه، ص9. ↩︎
- نفسه، ص10. ↩︎
- نفسه، ص49،6. ↩︎
- نفسه، ص131. ↩︎
- نفسه، ص11. ↩︎
- نفسه، ص140،20. ↩︎
- نفسه، ص65،59. ↩︎
- نفسه، ص65. ↩︎
- نفسه، ص84. ↩︎
- نفسه، ص104. ↩︎
- نفسه، ص12. ↩︎
- نفسه، ص93. ↩︎
- نفسه، ص142،119،118،88. ↩︎
- نفسه، ص99. ↩︎
قراءة مبسطه الى حد الجمال بعيدا عن الاستعراض النقدي الملاك
بوركت
وبوركت شاعريتك التي تتداعى الكتابة لانسيابها الآسر..