العربية الفصحى وتاريخ الدلالة والمعنى

العربية الفصحى وتاريخ الدلالة والمعنى

د. عبده منصور المحمودي

للدلالة والمعنى في اللغة العربية الفصحى تاريخٌ لغوي، عمل الأستاذ الدكتور عباس السوسوة على دراسة بعضٍ من ظواهره، فأصَّلَ تاريخيًّا لدلالة عددٍ من الألفاظ العربية، في فتراتٍ زمنيةٍ متعاقبة. من ذلك تأصيله للألفاظ: “نكتة”. و”مستهتر”. و”نخوة”.

[1]: النكتة تأصيل لغوي

خصص السوسوة لتأصيل لفظ “النكتة” بحثًا كاملًا؛ إذ درس هذا اللفظ، في تراث العربية، مستهدفًا فيه “تأصيل كلمة (نكتة)، التي تتعلق بها دلالات السخرية والضحك بأنواعه المختلفة في عربيتنا المعاصرة، وتتبُّع جذور هذه الدلالات تاريخيًّا من خلال الوثائق المكتوبة في التراث العربي”(1).

وبدأ اشتغاله هذا، بالوقوف والاطلاع على ما كُتِبَ فيها وعنها في التراث العربي، في: مؤلفاتٍ، وكتبٍ، ومجالاتٍ مختلفة. ومن خلال ذلك؛ اتضح له أن هذه اللفظة لم تحظَ بدراسة لغوية ذات منحى تاريخي: “إذن نستطيع أن نقرر مطمئنين أن بحثنا هذا أول من يتعرض لتأصيل النكتة لغويًّا(2).

[1ــ1]: الدلالة المعاصرة لـ”النكتة”

لأن نقطة البدء ــ التي يقوم عليها توجه السوسوة التاريخي هي الوقوف على الظاهرة المعاصرة ثم الانطلاق نحو تأصيلها ودراستها تاريخيًّا ــ فقد سار على هذا النسق في دراسته التاريخية لمجال الدلالة، إذ وقف عند الدلالة المعاصرة، ثم أصّلها ودرسها تاريخياً. وتأسيسًا على ذلك؛ فقد أورد الدلالة المعاصرة لكلمة “نكتة”، في أربع نقاط، هي(3):

1ـ النادرة الفكاهية الساخرة.

2ـ التعليق الساخر بكلمة أو بجملة على حدث أو موقف أو قول.

3ـ الرسم الكاريكاتوري الساخر.

4ـ الشخصية الإنسانية التي تكون باعثة على الضحك منها.

وأكد أن هذه الدلالات دلالات معاصرة، لا وجود لها “في عصر الاحتجاج باللغة الفصحى (من العصر الجاهلي حتى منتصف القرن الثاني الهجري)”(4).

[1ــ2]: “النكتة” من الدلالة المادية إلى الدلالة المعنوية

شرع الدكتور عباس السوسوة، في دراسته التاريخية لدلالة “النكتة” المعجمية، فوجدها دلالة مادية. ثم رصد التحول الذي طرأ عليها، من الدلالة المعجمية المادية إلى الدلالة المعنوية العلمية. وتتبع هذا التحول في كتب التراث، فأورد دلالة “النكتة”، التي تضمنها “لسان العرب”؛ ففيه: “النَّكّات الطعَّان في الناس… نكت في العلم بموافقة فلان أو مخالفة فلان: أشار… والنكتة: كالنقطة، وفي حديث الجمعة: فإذا فيه نكتة سوداء: أي أثرٌ قليل كالنقطة…”(5). وهذا هو المعنى، الذي لم يجد جديدًا عليه في معاجم أخرى: “أما في تاج العروس فلا جديد، وكذلك في القاموس المحيط إلا أن نكتة تجمع على نكات”(6).

ورأى في “المعجم الوسيط” أنه على حداثته، “يأتي بالدلالات اللغوية القديمة للكلمة ولا يذكر شيئًا عن الدلالات المعاصرة للكلمة، وإن كان له فضل ذكر دلالة النكتة في العربية الفصحى، بعد عصر الاحتجاج، ففيه: “النكّات: الكثير التنكيت. والنكتة العلامة الخفية، والفكرة اللطيفة المؤثرة في النفس، والمسألة العلمية الدقيقة يتوصل إليها بدقة وإنعام فكر (…) جمع نكت ونكات””(7). هذا النص ــ كما هو واضحٌ ــ يفصح عن بداية التحول الدلالي، من الدلالة المادية إلى الدلالة العلمية: “وهذه الدلالة ظلت تستخدم في الفصحى حتى العصر الحديث. فقد انتقلت من الدلالة المادية للشيء المتناهي في الصغر. والمتميز عما حوله إلى الفكرة”(8).

[1ــ2ــ1] الدلالة العلمية لـ”النكتة” في الاستخدام التراثي

يذهب السوسوة متتبعًا الدلالة العلمية لـ”النكتة” في كتب التراث، بدءًا بهذا الشاهد للأزهري (ت370هـ): “تقييد نكت حفظتها ووعيتها عن أفواه العرب الذين شاهدتهم وأقمت بين ظهرانيهم سنيات”(9). وشاهدٌ آخر، جاءت فيه النكتة “بمعنى “المعاني اللطيفة” عند الثعالبي (ت 429هـ)؛ يتحدث عن عضد الدولة البويهي، فيذكر أنه “يقول شعرًا كثيرًا يخرج منه ما هو شرط هذا الكتاب من الملح والنكت””(10).

[1ــ2ــ2]: الدلالة العلمية لـ”النكتة” في الاستخدام المعاصر

يصل السوسوة في دراسته التاريخية لدلالة “النكتة” إلى الاستخدام المعاصر، فيشير “إلى أن هذه الدلالات العلمية للنكتة والنكت قد اختفت من استعمالات الكتاب المعاصرين”(11). باستثناء “قلة من أصحاب الثقافة الدينية”(12). واستشهد لهذه القلة بنصٍ لـ “الدكتور صبحي الصالح (ت 1986م)، يقول: “ويمكننا اكتشاف هذه المعاني… بعضها ببعض لنكتة بلاغية … فمن النكات البلاغية…”(13). ويمثل إيراده هذا النص رصدًا لتغيير من النمط الكمي، حيث كانت هذه اللفظة ذات دلالة علمية في القديم بصورة أكثر منها في العربية المعاصرة.

[1ــ3ــ1]: “النكتة” والدلالة على السخرية والضحك

من الدلالة المعنوية (العلمية) لـ”النكتة”، ما يتعلق بـ”استعمالها في مجال الضحك والسخرية”(14). وهو المعنى الذي تتبعه السوسوة في كتب التراث، بدءًا ببديع الزمان الهمذاني، إذ يقول: “فنحن نجد النكتة بمعنى التعليق عند بديع الزمان الهمذاني (ت 398هـ) في رسائله…”(15)، مستشهدًا بنصه، الذي جاء فيه: “فأتته السكتة، وأضجرته النكتة، وانطفأت تلك الوقدة”(16).

ويمر السوسوة بكثير من الكتب والمصنفات، وفقًا للتسلسل التاريخي لوفاة مؤلفيها، حتى يصل إلى تاريخ (1089هـ)، وهو تاريخ وفاة ابن العماد الحنبلي، إذ استشهد بنصه: “له نكت غريبة وطباعٌ عجيبة”(17). ويقول بعد هذا الشاهد: “ويكثر ورود النكتة وما اشتق منها بعد هذا التاريخ بالمعنى المعاصر”(18). بمعنى أن هذا التاريخ يمثل نقطة تحولٍ كمية في استعمال الدلالة، فمن قلة استخدام هذه الدلالة إلى كثرته.

ويمضي مستشهدًا لهذه الكثرة بعد هذا التاريخ: “فها هو الشربيني (ت 1097هـ) يؤلف كتابًا كاملًا يشرح فيه قصيدة عامية، وهذا الشرح يتكون من مئتين وأربعٍ وأربعين صفحة (244ص) محشوة بالنوادر الغليظة. ويبدأ في المقدمة بقوله :”وأن أصرح فيه ببعض نُكيتات هزلية وحكم هبالية على سبيل المجون والخلاعة””(19).

كما يورد مواضع أخرى، استعمل فيها الشربيني هذه اللفظة بالمعنى المعاصر. كذلك، يورد شواهد عدة بعد شاهده هذا، حتى يصل إلى  عبد الرحمن الكواكبي (ت 1902م)، والشيخ محمد عبده، (ت 1905م)، فيستشهد بنصوصٍ لهما. من ذلك نص عبد الرحمن الكواكبي: “وتسلط عليهم أقلام الأدباء وألسنة الشعراء، بوضع أهاجي وأناشيد بعبائر بسيطة محلاة بنكت مضحكة…”(20).

وبعد هذين العلَمين، يتحدث عن ذروة الاستعمال للنكتة بهذا المعنى، فيقول: “وفي العصر الحديث استعملت النكتة أكثر من أي وقتٍ مضى في تاريخ العربية للدلالة على الضحك بأنواعه المختلفة”(21). ويورد شواهد لذلك، منها نص للعقاد، قاله في حفني ناصف: “وكان فكهًا سريع الخاطر في النكات الباردة (…) وقد ترى الرجل فصيحًا في المجلس سريعًا إلى النكتة اللسانية…”(22).

[1ــ3ــ2]: التحوّل ودلالة “النكتة” على الضحك والسخرية

بيّن السوسوة من خلال تتبعه التاريخي لمعنى “النكتة” التحوّل من الدلالة المادية إلى الدلالة العلمية المعنوية، التي منها الدلالات المعنوية الأدبية، كالخلاصة والفكرة اللطيفة، وموطن الجمال، وسر العبارة والتعليق. ومن ثم التحول الداخلي في إطار الدلالة العلمية، حيث كان هناك تحولٌ من المعنى العلمي إلى المعنى الفكاهي، وهو المعنى المعاصر لهذه الكلمة. ويجسد هذا التحولُ تغييرًا كميًّا متناميًا بالزيادة، من زمنٍ إلى زمن. مع ملاحظة نقاطٍ زمنيةٍ واضحٌ فيها تنامي هذه الزيادة باتجاه العصر الحديث، الذي يبلغ فيه هذا التنامي ذروته؛ المتمثلة في: “الانتقال من الدلالات الحسية إلى الدلالات التجريدية نتيجة لتطور العقل الإنساني ورقيه”(23). وهذا التغير والتحول من المادي إلى المجرد “يتم عادةً في صورةٍ تدريجية”(24)، وهو ما رصده وتتبعه عباس السوسوة في دراسته لهذا اللفظ العربي الفصيح.

[1ــ4]: تحول دلالة “النكتة” إلى الضد

يرصد السوسوة نوعًا آخر من التحوّل، متمثّلًا في التحول إلى الضد، الذي طرأ على دلالة هذه اللفظة؛ ففي أحد شواهده للدلالة المعجمية، يورد من أحد المعاجم هذا التعريف للنكتة: “النكتة: كل نقطة من بياض في سواد أو عكسه فهي النكتة. يقال هو النكتة في قومه: أي العلم المشار إليه”(25). ويعلق على هذا التعريف، بالقول: “وهنا نلاحظ أن العكس هو ما حدث في العربية المعاصرة. فالنكتة هو من يكون موضع السخرية من الناس”(26)، إذ تغيرت الدلالة في العصر الحديث، إلى ضد ما كانت عليه في القديم.

[2]: مستهتر

يدرس عباس السوسوة دلالة اللفظ “مستهتر” دراسة لغوية تاريخية، في بحثه “عن حاملي عصا التصويب اللغوي”، مقيمًا ذلك، على نقدٍ منهجيٍّ؛ إذ وجد ذلك ثغرة في البحث الذي نقده. يقول: “لكن الباحث الفاضل اكتفى ــ رغم جهده الواضح ــ بالتأويل واستنطاق كتب النحو والصرف، ولم يذكر نصًا قديمًا وردت فيه كلمة الاستهتار بمعنى اللامبالاة والاستهانة، كما هو حادث في فصحانا المعاصرة؛ إذ لا يعقل أن يحدث ذلك طفرةً”(27).

ويكمل السوسوة هذه الثغرة، إذ يتتبع دلالة هذا اللفظ في تراث العربية، موردًا الشواهد لذلك، قائلًا: “لعل أقدم الشواهد على ذلك ما جاء في شعر الأندلسي ابن الأبّار (ت 433هـ) في وصف الدولاب الذي يسقي له:

وأنه مما شدا مستهترٌ ** وكأنه مما بكى أوَّابُ”(28).

ويؤصل بهذا الشاهد للبداية الأولى لهذه الدلالة. ثم يذكر مجيء اللفظ “بمعنى المستهين عند سبط ابن الجوزي (ت 654هـ) يصف به القاضي عبد العزيز بن عبد الواحد: “كان فاسد العقيدة دهريًّا مستهترًا بأمور الشريعة””(29).

ويذكر حمل اللفظ “دلالة سيئة عند ابن كثير (ت 774هـ) في حديثه عن ابن الرواندي الملحد. وفي حديثه عن أبي العلاء المعري يقول: “أورد ابن الجوزي من أشعاره الدالة على استهتاره بدين الإسلام أشياء كثيرة. فمن ذلك…””(30).

كذلك، يورد مجيء اللفظ “بمعنى الاستهانة عند المؤرخ ابن الفرات (ت 807هـ). في حديثه عن مقتل السلطان الأشرف خليل: “ثم شرع يعدد مساوئ السلطان الأشرف ومخازيه واستهتاره بالأمراء ومماليك أبيه وإهماله لأمور المسلمين””(31).

ويختتم تتبعه هذا، بنصٍ جاء اللفظ فيه “بمعنى السلوك السيئ، عند المقرّي (ت1041هـ)”(32). وأورد الشاهد في هذا النص: “فأَخْذُهُ بالظلم وإخراجه في هذه الترهات من أفحش الاستهتار”(33).

وقد وقف بدراسته لدلالة هذا اللفظ عند هذا الشاهد، ولم يواصل تتبعه ودراسته، حتى يصل إلى العصر الحديث. وقد علل ذلك؛ بتعليلٍ هزلي وتعليلٍ جدي، مازجًا بين الجد والهزل. فالهزلي: “ولا يزال لدينا بعض الشواهد، لكنا اكتفينا بالسبعة جريًا أو قل تقليدًا للمعلقات السبع والمجمهرات السبع …إلخ”(34). والتعليل الجدي: “وسنجرد لهذا الفعل وتحول دلالاته بحثًا خاصًا، إن شاء الله!”(35)، وهو التعليل الموضوعي الذي يبرر له وقوفه هذا.

[3]: النخوة

في بحثه الموسوم بـ”تشريح أسطورة نخوة المعتصم“، يدرس الدكتور عباس السوسوةة دلالة كلمة “نخوة”، دراسة تاريخية، متتبعًا هذه الدلالة، لكن في المعاجم اللغوية فقط.

[3ــ1]: المعنى الأسطوري

يبدأ السوسوة دراسته التاريخية لكلمة “نخوة”، بإيراد معناها المتداول والمتعارف عليه، كما تصورها الأسطورة، فهي تعني: “الحمية وسرعة النجدة، والمبادرة إلى فعل الخير طوعًا دون أن يكون للفاعل مصلحة شخصية”(36).

ويشير إلى أن هذا المعنى “غير موجود في المعاجم القديمة، رغم وجوده في الكتابات العربية القديمة، ثم عند العامة بعد ذلك”(37). أي أن المعاجم اللغوية، لم يرد فيها هذا المعنى، على تداوله واستخدامه في الكتابات الفصيحة وفي الاستخدام العامي.

[3ــ2]: المعنى المعجمي

يمر السوسوة بالمعاجم اللغوية، موردًا منها معنى “النخوة” فيها. ففي “الجمهرة”، لابن دريد: “نخى الرجل فهو منخو والاسم النخو”(38). وفي “لسان العرب”، النخوة: “العظمة والكبر والفخر”(39). أما في “القاموس المحيط”: “نخا ينخو نخوة: افتخر تعظم، نُخي كغُني، وانتخى، وانتخى فلانًا: مدحه. وأنخى زادت نخوته”(40).

هذا هو المعنى في المعاجم القديمة، ولم يأتِ بزيادةٍ لا “المصباح المنير”. ولا “تاج العروس”(41). وما أورده السوسوة هنا هو كل شيء، مؤكدًا ذلك، بقوله: “قال عباس: هذا كل ما في هذه المادة!”(42).

ويصل إلى “المعجم الوسيط”، فيقول إنه قد وردت فيه: “معاني: الفخر والعظمة والتكبر والاستنكاف مرتبة، ثم: النخوة: الحماسة والمروءة. ونحمد الله على أن وفقه إلى هذه الزيادة المفيدة”(43).

وواضحٌ ــ من تتبعه هذا ــ اكتفاؤه بالمعاجم اللغوية فقط، مع إشارته إلى أن الدلالة التي حملتها الأسطورة لهذه اللفظة واردة في الكتابات القديمة. وكان الأحرى أن يأتي منها بشواهد تؤصل لهذا المعنى المتداول، مادام هو المعنى الذي تقوم عليه الأسطورة المشرَّحة. فما أتى به دلالة معجمية بحتة، وهي السمة البارزة في المعاجم اللغوية. وربما كان ضيق حدود البحث وراء عدم الاستشهاد بمثل تلك الشواهد. وعلى ذلك، كان لا بد من الاستدلال، ولو بنصٍ أو شاهدٍ واحد على هذا المعنى؛ إذ يُلاحظ سردُهُ لشواهد من الكتابات العربية، تناقض ما ذهبت إليه دلالة تلك الأسطورة، متتبعًا إياها وفقًا للمنهج التاريخي. في حين لم يأتِ بشواهد، تتفق مع الدلالة، التي تحملها تلك الأسطورة.

[4]: شذرات تاريخية في الدراسة الدلالية والمعجمية

في مواضع أخرى من دراسات الدكتور عباس السوسوة ودراساته اللغوية، تظهر شذراتٌ بسيطة، فيها بعضٌ من إجراءات الدراسة اللغوية التاريخية.

[4ــ1]: “الجُندي”

من تلك الشذرات التاريخية المقتضبة، التي وردت في ثنايا أبحاث السوسوة، ما جاء في بحثه “لساني فضولي يتطفل على قراءة النص”، حيث يأتي في معرض نقده المنهجي لبحث السيد إبراهيم ــ “الاتجاهات غير التقليدية في قراءة القدماء للنصوص” ــ بنصٍ فيه إشارة إلى تخصيص الدلالة، في زمنٍ محدد، وعند فئةٍ اجتماعيةٍ محددة، فيقول:

“ولاحظنا أنه ضبط كلمة الجُندي بضم الجيم. فإذا لم يكن النص في المصدر مضبوطًا فإني أرجح كسر الجيم، لأني سمعتها في الريف المصري مكسورة، ثم لورود الكلمة في كتب التاريخ والأدب في العصر المملوكي بهذا الضبط، ومعناها هناك: الضابط أو ما كان في درجته، وليس الفرد العادي”(44). وليس في هذا النص إجراءٌ من إجراءات المنهج التاريخي، لكن فيه تحديد للدلالة.

كما أورد في بحثٍ آخر، مفارقة بين دلالة هذا اللفظ في القديم ودلالته المعاصرة. جاء ذلك، في معرض نقده المنهجي، في بحثه “نقدات في أعيان العصر للصفدي”؛ إذ كان من مآخذه سهو المحققين لكتاب الصفدي. ومن هذا السهو “المصطلحات المملوكية التي سقط منها كثير مثل مصطلح (الجندي) الذي نلحظ أن دلالته تختلف عن دلالته في عصرنا، كما يلاحظ من سياق المترجم…”(45).

[4ــ2]: عضو الدولة

ومن هذه الشذرات السريعة ــ أيضًا ــ نصٌّ ورد في ثنايا نقدٍ منهجيٍّ. ذكر فيه بداية استعمال واحدٍ من تعبيرات العربية، من دون أن يتتبعه، في مصنفات الكُتاب ومؤلفاتهم؛ لأنه جاء عرضًا، مستدركًا هذا الأمر على مَن ينقده، قائلًا:

“غاب عنه ــ كما غاب عن كثيرين ــ أن تعبير (عضو الدولة) و(أعضاء الدولة) يعود إلى نهاية القرن الرابع الهجري، فقد جاء في الرسائل الديوانية الفاطمية “أعضاء الدولة؛ للدلالة على رجالاتها التي تقوم عليهم”(46).

[4ــ3]: اعتذر

يشير السوسوة إلى أثر الظاهرة النحوية المعاصرة ــ المصاحبة ــ في تحويل معنى الفعل “اعتذر” إلى الضد. فهذا الفعل “في المعاجم، اعتذر من ذنبه، واعتذر عن فعله: إذا تنصل واحتج لنفسه، وهذا المعنى وهذه المصاحبة في العربية المعاصرة أيضًا، غير أنه جدَّ معنىً جديدٌ لهذا التركيب إذا دخل في علاقة مصاحبة مع المصدر (حضور)، مثل:

(اعتذر رئيس اتحاد الكرة عن حضور هذه المباراة) وتكون الدلالة: قدم عذره عن غيابه”(47)؛ فهذه المصاحبة “حولت الدلالة إلى الضد”(48).

[4ــ4]: “الكُندرة”

كذلك، من الشذرات البسيطة ــ ذات إجراءات المنهج التاريخي، في كتابات السوسوة ودراساته ــ المقارنة بين معنى لفظ “الكندرة” القديم والمعنى المعاصر، فيقول في الهامش الأول لصفحةٍ من صفحات كتابه “شرح المشعططات السبع”:

“في كتب الصيد القديمة: الكندرة المجثم الذي يضع الطير ــ الصقر غالبًا ــ قدميه عليه، ثم انتقلت إلى حذاء الإنسان، والله أعلم”(49).

والدكتور عباس السوسوة، في هذه الشذرات البسيطة، يأتي بإجراء من إجراءات منهج الدراسة اللغوية التاريخي، غير متتبعٍ تتبعًا تاريخيًّا؛ ذلك لأن الإجراء لا يأتي إلا عرضًا، وفكرةً جزئية ثانوية في إطار الفكرة الرئيسة، التي يقوم عليها موضوعٌ ما من موضوعات أبحاثه أو كتبه.

  1. عباس علي السوسوة، “النكتة: تأصيل لغوي”. مجلة Philology ــ كلية الآداب والألسن، جامعة عين شمس، القاهرة، العدد (28)، يناير ــ يونيو 1997م، ص: (1). ↩︎
  2. نفسه. ↩︎
  3. نفسه. ↩︎
  4. نفسه، ص: (2). ↩︎
  5. نفسه، ص: (2). وانظر: ابن منظور، “لسان العرب”. تحقيق: عبد الله علي الكبير، ومحمد أحمد حسب الله، وهاشم محمد الشاذلي، ورمضان سيد أحمد. دار المعارف، القاهرة، 1981 ــ 1987م، ص: (4536). ↩︎
  6. نفسه. ↩︎
  7. نفسه. وانظر: مجمع اللغة العربية، “المعجم الوسيط”. ط2، القاهرة، 1973م، ص، (950). ↩︎
  8. نفسه، ص: (3). ↩︎
  9. نفسه. وانظر: أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري، “تهذيب اللغة”. تحقيق: عبد السلام هارون. المؤسسة المصرية العامة للتأليف، القاهرة، 1964م، جـ1/ ص: (6). ↩︎
  10. نفسه، وانظر: أبو منصور عبد الملك الثعالبي، “يتيمة الدهر”. دار الكتب العلمية، بيروت، 1983م، جـ2/ ص: (257). ↩︎
  11. نفسه. ↩︎
  12. نفسه، ص: (4). ↩︎
  13. نفسه. وانظر: صبحي الصالح، “دراسات في فقه اللغة”. ط10، دار العلم للملايين، بيروت، 1983م، ص: (310). ↩︎
  14. نفسه. ↩︎
  15. نفسه، ص: (5). ↩︎
  16. نفسه. ↩︎
  17. نفسه، ص: (7). وانظر: عبد الحي بن أحمد بن محمد بن العماد الحنبلي، “شذرات الذهب في أخبار من ذهب”. مكتبة القدسي، القاهرة، 1350 ــ 1355هـ، جـ6/ ص: (27). ↩︎
  18. نفسه. ↩︎
  19. نفسه. وانظر: الشيخ يوسف محمد عبد الجواد بن خضر الشربيني، “هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف”. المكتبة المحمودية، القاهرة، د.ت، ص: (2). ↩︎
  20. نفسه، ص: (9). وانظر: عبد الرحمن الكواكبي، “أم القرى”. الطبعة العمومية، حلب، 1959م، ص: (186). ↩︎
  21. نفسه. ↩︎
  22. نفسه، ص: (10). وانظر: عباس محمود العقاد، “شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي”. ط3، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1965م، ص: (33،32). ↩︎
  23. أحمد مختار عمر، “علم الدلالة”. ط4، عالم الكتب، القاهرة، 1993م، ص: (238). ↩︎
  24. نفسه. ↩︎
  25. عباس السوسوة، “النكتة: تأصيلٌ لغوي”. مجلة Philology، مرجع سابق، ص: (2). وانظر: أبو البقاء أيوب بن موسى الحسين الكفوي، “الكليات”. تحقيق: عدنان درويش، ومحمد المصري. وزارة الثقافة، دمشق، 1976م، جـ4/ ص: (330). ↩︎
  26. نفسه. ↩︎
  27. عباس السوسوة، “عن حاملي عصا التصويب اللغوي ومتفرقات”. مجلة جذور، النادي الأدبي الثقافي بجدة، العدد (9)، مجلد (5)، ربيع الآخر 1423هـ ــ يونيو 2002م، ص: (81). ↩︎
  28. نفسه. وانظر: ابن سعيد المغربي، “المُغرب في حُلى المغرب”. تحقيق: شوقي ضيف. دار المعارف، القاهرة، 1964هـ، جـ2/ ص: (310). ↩︎
  29. نفسه. وانظر: سبط ابن الجوزي، “مرآة الزمان في تاريخ الأعيان”. جمعية دائرة المعارف العثمانية، حيدر أباد الدكن، 1951م، جـ8/ ص: (751). ↩︎
  30. نفسه، ص: (82).  وانظر: ابن كثير إسماعيل بن عمر الدمشقي، “البداية والنهاية”. مكتبة المعارف، بيروت، 1977م، جـ1/ ص: (408). ↩︎
  31. نفسه، وانظر: ابن كثير، “البداية والنهاية”. مصدر سابق، جـ12/ ص: (75). ↩︎
  32. نفسه. ↩︎
  33. نفسه. وانظر: أحمد بن محمد المقري التلمساني، ” نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب”. تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1968 ــ 1972م، جـ4/ ص: (375). ↩︎
  34. نفسه، ص: (83). ↩︎
  35. نفسه. ↩︎
  36. عباس علي السوسوة، “تشريح أسطورة نخوة المعتصم”. مجلة جذور، إصدارات النادي الثقافي الأدبي بجدة، العدد (23)، المجلد (10)، صفر 1427هـ ــ مارس 2006م، ص: (158). ↩︎
  37. نفسه، ص: (159). ↩︎
  38. نفسه. وانظر: ابن دريد، “جمهرة اللغة”. بعناية: محمد يوسف السورتي، وفريتس كرنكو. جمعية دائرة المعارف العثمانية، حيدر أباد الدكن، 1354هـ، جـ2/ ص: (244). ↩︎
  39. نفسه، وانظر: ابن منظور، “لسان العرب”. مصدر سابق، ص: (4379). ↩︎
  40. نفسه. ↩︎
  41. نفسه. ↩︎
  42. نفسه. ↩︎
  43. نفسه، وانظر: مجمع اللغة العربية، “المعجم الوسيط”. مصدر سابق، ص: (910). ↩︎
  44. عباس علي السوسوة، “لساني فضولي يتطفل على قراءة النص”. مجلة علامات، النادي الأدبي الثقافي بجدة، العدد (49)، مجلد (13)، رجب 1424هـ ــ سبتمبر 2003م، ص: (340،339). ↩︎
  45. عباس علي السوسوة، “نقدات في أعيان العصر للصفدي”. مجلة العرب، الرياض، الجزء (10،9)، السنة (39)، مايو ــ يونيو 2004م، ص: (632). ↩︎
  46. عباس علي السوسوة، “في النحو التاريخي للفصحى، وملاحظات”. مجلة جذور، النادي الأدبي الثقافي بجدة، العدد (10)، المجلد (6)، رجب 1423هـ ــ سبتمبر 2002م، ص: (103). ↩︎
  47. عباس علي السوسوة، “العربية الفصحى المعاصرة وأصولها التراثية”. دار غريب، القاهرة، 2002م، ص: (227). ↩︎
  48. نفسه. ↩︎
  49. ضياء الدين بن جمال الذماري، “شرح المشعططات السبع”. تحقيق وتعليق: عباس علي السوسوة. ط1، مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، 1428هـ ــ 2007م، ص: (50). ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *