النحو التاريخي والعربية الفصحى

النحو التاريخي والعربية الفصحى

النحو التاريخي والعربية الفصحى

د. عبده منصور المحمودي

تمثل دراسة نحو العربية الفصحى تاريخيًّا ثغرة في الدراسات اللغوية العربية التاريخية؛ بحسب رؤية الأستاذ الدكتور عباس السوسوة. الذي صار لديه هذا المنحى طموحًا محوريًّا؛ إذ يشير إلى ذلك، بالقول: “كتابة نحو تاريخي للعربية الفصحى اعتمادًا على كل ما كتب بالعربية، من أقدم نصٍّ وردت فيه الظاهرة المعينة، وتتبعها في الحقب المختلفة، عند الأدباء والمؤرخين والأصوليين والفلاسفة والمتكلمين والرحالة والأطباء وكتاب التراجم والمؤلفين في العلوم البحتة (…إلخ) حتى عصرنا”(1). وتحقيق هذا الطموح يحتاج إلى جهودٍ مؤسسية جبارة حتى يرى النور؛ إذ لا يمكن أن يتحقق بجهد فردي. وإن كان بإمكان الفرد (الباحث)، القيام بتحقيق بعض من ذلك.

ومع إيمان السوسوة بما يحتاج إليه هذا الطموح من جهود لتحقيقه، ذهب بجهده الفردي محققًا بعضًا منه، حينما درس في كتابه “العربية الفصحى المعاصرة وأصولها التراثية” موضوعات: الإعراب، والمطابقة، والموقعية، والمصاحبة، والتكرار، والربط، والفصل بين المتضامين.

ولعل من أهم الظواهر اللغوية، التي درسها في هذه الموضوعات: ظاهرة مصاحبة الواو لشبه الجملة، ومصاحبة الواو للاسم الموصول، والوظائف النحوية الجديدة للكاف الجارة، وتكرار (بين) المضافة إلى اسمٍ ظاهر.

[1]: ظاهرة مصاحبة (الواو) لشبه الجملة
[1ــ1]: ظاهرة مصاحبة (الواو) لشبه الجملة في العربية الفصحى العربية المعاصرة

في دراسته التاريخية لهذه الظاهرة، بدأ الدكتور عباس السوسوة شواهده بسبعة شواهد من العربية الفصحى المعاصرة، وفقًا للنمط الذي ينتهجه في دراسته التاريخية اللغوية. ذاك النمط القائم على الابتداء من الحاضر، والانطلاق منه صوب الماضي. وذلك؛ لتتبع ظاهرةٍ من الظواهر، ورصد تغيراتها عبر العصور.

وأول ما استشهد به السوسوة على هذه الظاهرة، من العربية الفصحى المعاصرة، كان هذا الشاهد: “إن أمريكا ستضرب وبشدة …”(2). وآخرها هذا الشاهد: “إنهم ومنذ عشرة أيام كانوا يشعرون برغبة في التقيؤ”(3).

وقد أتى بهذه الشواهد “من لغة الصحف اليومية”(4). وأورد بعدها شواهد أخرى، أو كما يسميها: “أمثلة أخرى من غير الصحف”(5). كهذا الشاهد:

“وقد ذكره الأستاذ عزام وذكرها مرارًا كثيرة جدًّا في كتابه، وبأدبٍ جم حتى عند أشد المخالفة”(6).

[1ــ2]: ظاهرة مصاحبة (الواو) لشبه الجملة في العربية الفصحى التراثية

ينتقل السوسوة ــ بعد إيراد شواهد الفصحى المعاصرة ــ إلى الحديث عن هذه المصاحبة، فيذكر أن “لها أصولًا في التراث العربي”(7). ويتتبع ورودها فيه، مستشهدًا لها. فيجدها مثلًا، عند “القاضي التنوخي (ت 384هـ): “يا هذا، إن الوزير في طلبك منذ السحر وإلى الآن””(8).

وواضح في مثاله هذا وفاة المؤلف في القرن الرابع الهجري. كذلك مما استشهد به على وجود الظاهرة في القرن الخامس الهجري، ما وجده عند ابن سينا (ت 428هـ). إذ يمر على كتابيه: “البرهان من كتاب الشفاء”، و“القانون في الطب”. إذ يورد شاهدين من كتاب “البرهان”، واحدٌ منهما: “لأن الاستقراء ــ وإن كان لا يثبت ــ فقد يذكر وعلى الأحوال كلها”(9). وشاهد ثالث، يأتي به من كتاب “القانون في الطب”: “وكثيرًا ما تظهر علامات مهلكة وفي أيام رديئة”(10).

ويمضي في تتبعه لهذه الظاهرة، في القرن السادس الهجري، فيجدها “عند ابن الجوزي (ت597)، فبعد أن قص المؤلف (ابن الجوزي) حكاية لصٍ انفرد برجل وطلب منه أن يخلع ثيابه، فرجاه أن يستره، وحلف له ألا يشي به، فرفض، فحلف على الحلف. وفي النهاية قال اللص: “لقد تصفحت أمر اللصوص من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى وقتنا هذا فلم أجد لصًّا أخذ نسيئة، وأكره أن أبتدع في الإسلام بدعة””(11).

ويختتم الدكتور عباس السوسوة تتبعه هذه الظاهرة، بشاهدٍ من القرن السابع الهجري. ورد عند ابن أبي أصيبعة (ت668هـ). هو: “ورد كثير من المشتغلين بها والراغبين في مباحث أصولها وتطلبها منذ أول ظهورها وإلى وقتنا هذا”(12).

وقد وقف السوسوة ــ من خلال دراسته لهذه الظاهرة ــ على أصلٍ فصيح لها، وأتى بشواهد لورودها في مؤلفات ومصنفات التراث العربي الإسلامي. ذلك؛ ليربط بين الأصل الأول لها والاستعمال المعاصر. حيث تمثل هذه الظاهرة تغيرًا كميًّا، في تاريخ نحو العربية. إذ كان استعمالها في القديم قليلًا، واتسع في العصر الحديث، لتصير في إطار ما استعمله الأغلبية غير متناهين عما استعملوه.

[2]: مصاحبة (الواو) للاسم الموصول

يبدأ الدكتور عباس السوسوة دراسته هذه الظاهرة، بتوضيحٍ لماهية (الواو) التي يقصدها. فهي ليست (الواو) التي تنسق بين الصفات المتعددة(13). وإنما هي (الواو) التي تدخل “على الموصول دون أن يكون في الجملة ــ أو في الجمل ــ تعدد في الصفات”(14).

[2ــ1]: مصاحبة (الواو) للاسم الموصول في العربية الفصحى المعاصرة

يستشهد السوسوة لهذه الظاهرة بشواهد معاصرة، من لغة الصحافة. من مثل هذا الشاهد:

“ظاهرة الإنارة المستمرة في بعض شوارع العاصمة والتي لا تعرف الإطفاء إلا في حالة تعطل التيار…”(15).

كما يستشهد بشواهد من غير لغة الصحافة، من مثل:

“ولا أريد أن أترك هذه الإشارات دون أن أعيد عليك الأبيات المشهورة، والتي نسبت إلى غير واحد من الشعراء، وهي: ولما قضينا من منىً كل حاجة (…)”(16).

[2ــ2]: مصاحبة (الواو) للاسم الموصول في العربية الفصحى التراثية

ينتقل بعد إيراد الشواهد المعاصرة، إلى تأصيل هذه الظاهرة في تراث العربية، مبتدئًا بالجاحظ، فيقول مستشهدًا:

“من ذلك ما نجده عند الجاحظ (ت 255هـ): “ومن الكلام المتروك والذي زالت أسماؤه مع زوال معانيه؛ المرباع والنشيطة”(17).

ويمضي في سرد شواهد عدة لهذه الظاهرة، من أزمنة مختلفة. حتى يستشهد بنص ابن تغرى بردى (ت 874هـ)، وهو يتحدث عن خلع السلطان المنصور محمد: “وسبب خلعه والذي أشيع عنه أنه بلغ الأتابك يلبغا أنه كان يدخل بين نساء الأمراء ويخرج معهن وأنه كان يعمل مكاريًا للجواري””(18).

وظاهرة المصاحبة ــ هذه ــ كسابقتها، تمثل تغيرًا كميًّا، فهي قليلة الاستعمال قديمًا، وكثيرٌ استعمالها حديثًا. وهي كسابقتها ــ أيضًا ــ في دراسته لها؛ إذ أصّل لها في تراث العربية. وتتبع ورودها في مؤلفات الكُتاب ومصنفاتهم، موردًا شواهد لها من تلك المؤلفات والمصنفات، في مسارٍ زمنيٍّ يصل به حتى العصر الحديث.

[3ــ1]: الوظائف النحوية الجديدة للكاف الجارة

تضطلع “الكاف الجارة”، بوظائف نحوية جديدة، في العربية الفصحى المعاصرة. وقد فسّر الدكتور عباس السوسوة ذلك، بالقول:

“في العربية المعاصرة وجدت للكاف الجارة وظائف جديدة نتيجة مصاحبتها لبعض الأسماء في مواقع لم تكن لها من قبل على الإطلاق. وهذه لا نجد لها تفسيرًا إلا أنها بتأثير الترجمة عن اللغات الأوروبية الحديثة”(19).

والسوسوة بهذا الرأي متفقٌ مع ما ذهب إليه الباحث صالح القرمادي، بقوله: “العدوى هنا واضحة في انتحال كاف التشبيه العربية لأداء معنى لفظة comme الفرنسية، وذلك لا للتعبير عن التشبيه، بل للتعبير عن مفهوم (من حيث إنه) أو (باعتبار أن). وهو مفهوم اعتادت العربية أن تدل عليه باستعمال التمييز عند الاقتضاء والإمكان”(20).

وعلى اتفاقه مع رأي هذا الباحث ــ بل والحكم عليه بالصواب، في بداية اقتباس نصه، حين يقول: “وقد أصاب بعض المحدثين في بعض جوانب استعمال هذه الكاف الحديثة حين قال …”(21) ــ إلا أنه لا يتفق معه في قصر ذلك الاستعمال على التمييز. وعلل ذلك؛ بامتداد هذا الاستعمال، إلى مواقع كثيرة في الفصحى المعاصرة. إذ يقول: “ونحن مع تسليمنا بما قاله هذا الباحث، لا نتفق معه في أنها تستعمل في مكان التمييز بل إنها تستعمل في مواقع كثيرة من المفاعيل والمنصوبات في الفصحى”(22).

[3ــ2]: الوظائف النحوية الجديدة للكاف الجارة في العربية الفصحى المعاصرة

يذهب السوسوة في تفصيل امتداد هذا الاستعمال إلى مواقع المفاعيل والمنصوبات في الفصحى المعاصرة، مبينًا هذا الاستعمال في موقع (الحال المنصوبة)، وموقع (المفعول لأجله)، وموقع (المنصوب على الاختصاص)، وموقع (المفعول الثاني)، وموقع (خبر كان المنصوب)، وموقع (التوكيد). ويورد شواهد عدة لهذه الظاهرة في تلك المواقع. ومما استشهد به في موقع (الحال المنصوبة)، هذا الشاهد:

“وزار صاحبنا أمريكا ستًا وعشرين مرة. زارها كشاب، وزارها كشيخ، وزارها وهو مفلس، زارها عندما كان يستطيع أن يقيم في أفخر فنادقها (= شابًا… شيخًا)”(23).

ومن شواهد موقع (المفعول لأجله)، هذا الشاهد:

“يعاني من هذه المشكلة كنتيجة للممارسات الخاطئة (= نتيجة)(24).

واستشهد بشواهد أخرى، لموقع (المنصوب على الاختصاص). مثل: “ونحن ــ كطلاب ــ لابد أن ننظم أوقاتنا (= الطلاب)”(25). ولموقع (المفعول به الثاني)، مثل: “وكان يحسبه كأخٍ كبير (= أخًا كبيرًا)”(26).

ومن استشهاداته لموقع (خبر كان المنصوب): “أصبحت كجزءٍ من البناء التاريخي للدولة (= جزءًا)”(27).

كذلك، استشهد لموقع (التوكيد) بشواهد عدة. منها: “العرب ككل لن يظلوا في حالة استقرار… (= كلهم)”(28).

والملاحظ على شواهد هذه الظاهرة، أنها من العربية المعاصرة. فهو لا يأتي بشواهد قديمة، ولا يؤصل لها. وذلك، لأن هذه الظاهرة من نوع التغير الكيفي؛ فهي ظاهرة جديدة في العربية الفصحى المعاصرة، وليس لها أصول تراثية في العربية.

[4]: تكرار (بين) المضافة إلى اسمٍ ظاهر

يدرس الدكتور عباس السوسوة هذه الجزئية، ضمن دراسته ظاهرة (التكرار في مكونات الجملة). التي كان لها الفصل الخامس من القسم الثالث في كتابه “العربية الفصحى المعاصرة وأصولها التراثية”.

ويتحدث عن (تكرار بين المضافة إلى اسمٍ ظاهر)، باعتبارها قاعدة فرعية تجيز تكرار (بين) عند إضافتها إلى اسم ظاهر. بخلاف القاعدة الأصلية، التي تجيز تكرار (بين) عند إضافتها إلى ضمير(29).

ويتحدث عن اللغويين المتشددين، الذين يخطئون هذه الظاهرة، فيرى أن بدايتهم كانت عند (الحريري). لكنه ــ أيضًا ــ يقف عند (ابن الأنباري) و(ابن الحنبلي)(30)، وما أجازه هذان العالمان من إضافة (بين) إلى اسم ظاهر بعدها. ويأخذ عليهما قلة ما ذكراه من شواهد شعرية ونثرية لهذه الظاهرة، ذاهبًا إلى إثرائها بالشواهد النثرية والشعرية؛ إذ يقول: “ونحن نجد أن شواهد هذه الظاهرة أكثر مما ذهب إليه العالمان الفاضلان وسنبدأ بالشعر ثم نثني بالنثر”(31). ثم يورد لهذه الظاهرة شواهد شعرية من الشعر الجاهلي والإسلامي والأموي والعباسي.

[4ــ1]: تكرار (بين) المضافة إلى اسم ظاهر في العربية الفصحى التراثية

من شواهد الشعر الجاهلي، التي استشهد بها على وجود هذه الظاهرة في تراث العربية، بيت عوف بن عطية(32):

ونرعى ما رعينا بين عبسٍ *** وطيئها وبين الحي بكر

أما شواهد الشعر الإسلامي، فمنها بيت مُزَرِّد بن ضرار الغطفاني(33):

منيعٌ بين ثعلبة بن سعدٍ *** وبين فَزارة الشُّعرِ الرقابِ

ومن شواهد الشعر الأموي، أبيات جرير بن عطية الخطفي، التي منها هذا البيت(34):

ولو خُيِّرَ اليقينُ بين الحياةِ *** وبين المنية لاختارها

كما كان لشعر أبي تمام الطائي مكانٌ للاستشهاد به بين ما استشهد به السوسوة في دراسته لهذه الظاهرة من الشعر العباسي؛ إذ استشهد بأبياته الثلاثة، التي يقول في واحدٍ منها(35):

فبين أيامك اللائي نُصِرْتَ بها *** وبين أيام بدرٍ أقربُ النسبِ

وكما استشهد بشعر الشعراء المشارقة، لم يغفل الشعراء المغاربة، فاستشهد لهذه الظاهرة ببيت ابن هانئ الأندلسي(36):

بين السحاب وبين البرق معركة *** معامعٌ وظبى في الجو تخترطُ

ومجيء هذا البيت ضمن استشهاده لوجود الظاهرة في البيئة الأندلسية ــ التي تسري فيها رياح التأثر ببيئة المشرق، بما في ذلك اللغة، بقواعدها الأصلية والفرعية، وظواهرها المستقرة والمتغيرة ــ يزيد الظاهرة تأصيلًا في تراث العربية، في المشرق والمغرب، على حدٍّ سواء.

ويتجه تتبعه لهذه الظاهرة في التراث صوب النثر، فيستشهد بأقدم نصٍّ وردت فيه هذه الظاهرة؛ إذ يقول:

“لعل أقدم أمثلتها ما جاء في خطبةٍ للرسول: “إن المؤمن بين مخافتين: بين عاجلٍ لا يدري ما الله صانعٌ به، وبين آجلٍ قد بقى لا يدري ما الله قاضِ فيه””(37).

ويمزج تتبعه هذا، بين النثر الأدبي والنثر اللغوي. ذلك؛ حين يستشهد للظاهرة بنصوصٍ وردت في كتاب سيبويه، فيقول: “ونجدها عند إمام النحاة سيبويه (ت ح 180هـ) “وإنما فُرق بين هذا وبين الباب الأول لأنه اسم، والأول فعلٌ فأعمل””(38). ويحيل في هامش الصفحة نفسها، على المواضع الأخرى من الكتاب، التي وردت فيها هذه الظاهرة. وبالنظر في هذه الإحالة، يُستخلص استقصاؤهُ لهذه الظاهرة في هذا الكتاب اللغوي خاصة. كما تُستخلصُ حقيقةُ أن اللغة الفصحى هي ما تعارف عليه الكُتَّاب من دون أن يروه خطأً. لا سيما ما يرد عند علماء اللغة الحاذقين بها. وأكثر من ذلك حينما يكون هذا الأمر من شيخ النحاة سيبويه.

[4ــ2]: تكرار (بين) المضافة إلى اسم ظاهر في العربية الفصحى المعاصرة

يمضي السوسوة ساردًا كثيرًا من الشواهد النثرية لـهذه الظاهرة في الاستخدام المعاصر. فيستشهد لذلك بشواهد من الصحافة المعاصرة. من مثل: “لا نجد جولات حوارٍ جديدة بين حركة فتح وبين التحالف الديمقراطي”(39).

والمُلاحَظ، أن شواهد الظاهرة، في الاستخدام اللغوي المعاصر قليلة، مقارنة بشواهد الظاهرة في كتب التراث؛ إذ اقتصر المؤلف على شواهد ثلاثة فقط، وهي من لغة الصحافة المعاصرة. ولم يأتِ بشواهد من غير لغة الصحافة، كما فعل مع كثير من الظواهر التي تتبعها. وكان ذلك ممكنًا، إلا إذا كان وجود الظاهرة مقصورًا على لغة الصحافة، فالإشارة إلى ذلك مما لابد منه.

وكما أن نقطة البداية التي يبدأ منها دراسته للظواهر، هي الحاضر المَعيش ــ كما بين ذلك فيما مضى ــ فيبدأ من الاستخدام المعاصر، ثم يتتبع الظاهرة في المصنفات التراثية. وعلى ضوء هذا المسار، يُسْتحْسَن أن يكون مسار الكتابة عن تلك الظواهر؛ فتتقدم ــ وفقًا لذلك ــ دراسة وشواهدُ الاستخدامِ المعاصر للظاهرة، ثم يأتي التتبع التاريخي للظاهرة في المصنفات التراثية في حقب الزمن المتعاقبة. وبذلك؛ يتبلور نوعٌ من التناسق والتماثل بين جزئيات الفكرة، والشكل الكتابي عنها، من حيث التراتب تقديماً وتأخيرًا. وهذا الأمر وإن كان شكليًّا لا ينال من تناسق ووضوح الفكرة، إلا أن الالتفات إليه مما يجسد هذا التناسق والوضوح.

وقد كان هذا التناسق والتماثل، واضحًا في الكثير الغالب من الدراسة التاريخية للظواهر اللغوية في كتابه “العربية الفصحى المعاصرة وأصولها التراثية”. لكن الأمر اختلف هنا مع التتبع والتأصيل التاريخي لظاهرة (تكرار بين المضافة إلى اسم بعدها). ذلك؛ أن فكرة الدراسة التاريخية ــ هنا ــ مبنية على الالتفات إلى وجود الظاهرة في العربية الفصحى المعاصرة، ثم تتبُّعها في مصنفات التراث. لكن الشكل الكتابي لدراسة هذه الفكرة، ابتدأ من التراث بشواهده الشعرية والنثرية. وأخَّرَ شواهد الاستخدام المعاصر. وهو مختلف عن ما سار عليه الكتاب، من الابتداء بالحديث عن الاستخدام المعاصر، ثم الانطلاق صوب التراث بتشعباته ومصنفاته المختلفة.

[5]: محاكاة للمصوبين اللغويين

يُلاحظ أن السوسوة كان ينقد بعض هذه الظواهر النحوية، محاكاةً لما يفعله المصوبون اللغويون، الذين أُعجب بهم، وتباهى بمحاكاته لهم، في بداية حياته العلمية، قبل أن تتغير نظرته فيهم وفي مؤلفاتهم، وقبل أن يتجه اتجاهًا تاريخيًّا بحتًا.

فهو حينما وقف عارضًا وناقدًا كتاب الدكتور أحمد قايد الصايدي، “المادة التاريخية في كتابات “نيبور” عن اليمن”، سلك في نقده اللغوي ما يسلكه المصوبون اللغويون، من اعتبار ظاهرةٍ من الظواهر المعاصرة خطأً شائعًا. فيقول، في النقطة الخامسة من نقاط نقده اللغوي لهذا الكتاب: “أخطاء نحوية متنوعة شائعة في لغة الصحافة المعاصرة، نعتقد أن وجودها في كتابٍ علمي أكاديمي عيب”(40). ويذكر من هذه الأخطاء: “مصاحبة حرف الواو لشبه الجملة دون مسوغ من عطف أو استئناف”(41). ويستشهد لهذه الأخطاء بخمسة شواهد. منها: “تتم بشكلٍ سريع وبدون توقف”(42). إذ يرى أن مصاحبة الواو لشبه الجملة هنا خطأ شائع، مصوبًا هذا الخطأ بحذف الواو، معللًا ذلك بأن “قراءة الجملة أو العبارة بعد حذف الواو أجمل”(43).

كذلك، ينقد مصاحبة (الواو) للاسم الموصول، في عرضه ونقده لكتاب عبد الوهاب المؤيد، “الصحافة التعاونية في اليمن”. إذ جاء في مستهل نقده اللغوي للمؤلف، قوله فيه: “لعل المؤلف من أفضل الصحفيين اليمنيين، من حيث صحة لغته. لكن هذا لم يمنع من وقوعه في بعض الأخطاء اللغوية، التي تنتشر في صحافتنا انتشار الجراد القاتل في حقل مزروع”(44). ويستشهد بشواهده لما سماه بالأخطاء اللغوية، مصوبًا إيّاها. ومن أمثلة هذه التصويبات، تصويبه ونقده لنص المؤلف، التالي:

“”هذا عرض سريع لقصة برنامج التعاون والذي لا يزال حتى اليوم بشعاره المميز” والصواب بحذف الواو، لأنه لم يعطف شيئًا على شيء، ولم يستأنف جملة جديدة، والموصول هنا في محل جر للصفة”(45). إذ يرى الصواب حذف هذه (الواو) المصاحبة لاسم الموصول. وتعليل ذلك عنده أن “تقدم الواو قبل الموصول دون عطف، مما يغير المعنى والصواب حذفها”(46).

وهذا النقد نفسه، هو الحاصل مع الوظائف النحوية الجديدة للكاف الجارة، إذ يصوّب قول المؤلف: “”ولم أنتقل إلى غيره على مدى خمسة عشر عامًا كرئيس لتحرير أربع مطبوعات صحفية تعاونية” ولا شك أن المؤلف لم يقصد بالكاف التشبيه، بل يقصد أنه رئيس بالفعل”(47).

وفي موضعٍ نقدي آخر، يقف السوسوة عند شواهد لهذه الوظائف الجديدة للكاف الجارة، مصوبًا إيّاها. من ذلك: “وحتى التحاقه كعضو في البعثة، صوابه عضوًا “حال””(48).

[6]: انضباط منهجية البحث التاريخي

هذه الظواهر النحوية، التي نقدها السوسوة قبل توجهه التاريخي، يقف عندها في كتابه “العربية الفصحى المعاصرة وأصولها التراثية”. فيرصد هذه الظواهر، ويتتبعها في التراث العربي الإسلامي، مسجلًا إيّاها تسجيلًا منضبطًا بمحكات المنهج التاريخي وحدود المؤرخ اللغوي. إذ يكتفي بهذا الرصد والتسجيل، من دون أن يجيز أو يمنع. على عكس ما فعله قبل توجهه التاريخي، من نقد لغويٍّ لهذه الظواهر؛ محاكاة للمصوبين اللغويين(49). وهو بحياديته ــ تلك ــ ملتزم بمنهجه، الذي رسمه لنفسه.

الصفحات الماضية، بما احتوته من نماذج للدراسة اللغوية النحوية التاريخية عند السوسوة، تبين كيف كانت بعض ظواهر النحو العربي المعاصر لافتة لانتباهه. مع اتكاءٍ على مخالفته المسبقة للمصوبين اللغويين لهذه الظواهر، فدرسها دراسة تاريخية. وأصَّلَ لها في تراث العربية الشعري والنثري. في تتبعٍ لورود مثل هذه الظواهر في مؤلفاتٍ صُنِّفتْ في حقبٍ وأزمنة متعاقبة. فاتضح التغيير الكمي الذي طرأ على نحو العربية؛ إذ شاعت ظواهر نحوية في العربية المعاصرة، كانت قليلة في العربية القديمة. كذلك اتضح التغيير النوعي، الذي تمثل في ظهور ظواهر نحوية جديدة، لم يكن لها وجود في العربية القديمة؛ إذ كانت هذه الظواهر الجديدة نسقًا من التواؤم مع مستجدات العصر، ومعطياته الحديثة. بما في ذلك، التأثير والتأثر بين اللغات الإنسانية، عن طريق الترجمة أو عن أي طريقٍ آخر.

كذلك، اتضح التنامي المعرفي عند السوسوة؛ ففي بداية مشواره العلمي، تأثر بكتب التصحيح اللغوي وأعجب بها، بل وحاكها في نقده لبعض هذه الظواهر. ثم تتنامى المعرفة لديه، بتنامي الشك في هذه المؤلفات مع دخول متغيرات أخرى في مسيرة تحصيله المعرفي؛ فيقف موقفًا آخر على النقيض من موقفه القديم، حيث يبني موقفه الأخير المناقض، على مسلمةٍ موضوعية، تتكئ على غلبة الاستعمال لظاهرة من الظواهر.


  1. عباس علي السوسوة، “دراسة نحو العربية تاريخيًّا: كتاب المؤتمر الثاني للعربية والدراسات النحوية: “العربية وقرن من الدرس النحوي”. جامعة القاهرة، 19،18 فبراير 2003م ـ 18،17 ذو الحجة 1423هـ، ص: (133). ↩︎
  2. عباس علي السوسوة، “العربية الفصحى المعاصرة وأصولها التراثية”: دار غريب، القاهرة، 2002م، ص: (165). ↩︎
  3. نفسه. ↩︎
  4. نفسه. ↩︎
  5. نفسه. ↩︎
  6. نفسه. وانظر: محمود محمد شاكر “كتاب المتنبي”. ط3، مكتبة الخانجي، ودار الرفاعي، القاهرة والرياض، 1987م، ص: (91). ↩︎
  7. نفسه، ص: (166). ↩︎
  8. نفسه. وانظر: القاضي المحسن بن علي التنوخي، “نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة”. تحقيق: عبود الشالجي المحامي. دار صادر، بيروت، 1971ـ 1973م، جـ2/ ص: (244). ↩︎
  9. نفسه. وانظر: ابن سينا (الشيخ الرئيس علي بن الحسين)، “البرهان من كتاب الشفاء”. تحقيق: عبدالرحمن بدوي. دار النهضة العربية، القاهرة، 1966م، ص: (59). ↩︎
  10. نفسه، ص: (167)، وانظر: ابن سينا، “القانون في الطب”. تحقيق: إدوارد القش. مؤسسة عزالدين، بيروت، 1987م، جـ4/ ص: (1866). ↩︎
  11. نفسه. وانظر: ابن الجوزي (أبو الفرج عبد الرحمن بن علي)، “أخبار الظراف والمتماجنين”. مكتبة القدسي، القاهرة، 1347هـ، ص: (45). ↩︎
  12. نفسه. وانظر: ابن أبي أصيبعة (موفق الدين أبو العباس أحمد بن القاسم الخزرجي)، “عيون الأنباء في طبقات الأطباء”. تحقيق: نزار رضا. مكتبة الحياة، بيروت، 1956م، ص: (7). ↩︎
  13. نفسه، ص: (171،170). ↩︎
  14. نفسه، ص: (171). ↩︎
  15. نفسه. ↩︎
  16. نفسه، ص: (172). وانظر: إبراهيم السامرائي، “لغة الشعر بين جيلين”. دار الثقافة، بيروت، 1968م، ص: (19). ↩︎
  17. نفسه. وانظر:
    ــ أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، “الحيوان”. تحقيق: عبد السلام محمد هارون. ط، مكتبة مصطفى الحلبي، القاهرة، 1948م، جـ1/ ص: (328).
    ــ الجاحظ، “رسائل الجاحظ”. تحقيق: عبد السلام محمد هارون. مكتبة الخانجي، القاهرة، 1981م، جـ1/ ص: (62). ↩︎
  18. نفسه، ص: (173). وانظر: ابن تغرى بردى (أبو المحاسن يوسف)، “النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة”. دار الكتب المصرية، القاهرة،1934ـ 1950م، جـ11/ ص: (75). ↩︎
  19. نفسه، ص: (231). ↩︎
  20. الترجمة من حيث هي عامل هام من عوامل العدوى اللغوية، حوليات الجامعة التونسية، العدد (11)، 1974م، ص: (18). ↩︎
  21. عباس السوسوة، “العربية الفصحى المعاصرة وأصولها التراثية”. مرجع سابق، ص: (232). ↩︎
  22. نفسه. ↩︎
  23. نفسه، ص: (233). وانظر: مصطفى أمين، “أمريكا الضاحكة”. ط2، مطبوعات أخبار اليوم، القاهرة، 1996م، ص: (16). ↩︎
  24. نفسه، ص: (234). ↩︎
  25. نفسه. ↩︎
  26. نفسه، ص: (235). ↩︎
  27. نفسه. ↩︎
  28. نفسه. ↩︎
  29. نفسه، ص: (237). ↩︎
  30. نفسه، ص: (238،237). ↩︎
  31. نفسه، ص: (238). ↩︎
  32. نفسه. وانظر: المفضل بن محمد الضبي، “المفضليات”. تحقيق: أحمد محمد شاكر، وعبد السلام محمد هارون. دار المعارف، القاهرة، 1974م، ص: (328). ↩︎
  33. نفسه، ص: (239). وانظر: الجاحظ، “البيان والتبيين”. تحقيق: عبد السلام محمد هارون. مكتبة الخانجي، القاهرة، 1985م، جـ4/ ص: (39). ↩︎
  34. نفسه: (240). وانظر: جرير (بن عطية الخطفي)، “ديوان جرير”. بشرح: محمد بن حبيب. تحقيق: نعمان محمد أمين طه. دار المعارف، القاهرة، 1972م، ص: (260). ↩︎
  35. نفسه، ص: (241،240). وانظر: أبو تمام الطائي (حبيب بن أوس)، “ديوان أبي تمام”. بشرح: الخطيب التبريزي. تحقيق: محمد عبده عزام. دار المعارف، القاهرة، 1976م، جـ1/ ص: (72). ↩︎
  36. نفسه، ص: (241). ↩︎
  37. نفسه. وانظر: الجاحظ، “البيان والتبيين”. مصدر سابق، جـ1/ ص: (303). ↩︎
  38. نفسه. وانظر: سيبويه (أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر)، “كتاب سيبويه”. تحقيق: عبد السلام محمد هارون، ط2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1973ـ 1979م، جـ1/ ص: (300). ↩︎
  39. نفسه، ص: (244). ↩︎
  40. عباس السوسوة، “المادة التاريخية في كتابات نيبور عن اليمن، عرض ونقد”. صحيفة الجديد، أبين، العدد (86)، 16أغسطس 1993م، ص: (12). ↩︎
  41. نفسه. ↩︎
  42. نفسه. وانظر: أحمد قايد الصايدي، “المادة التاريخية في كتابات “نيبور” عن اليمن”. دار الفكر، دمشق، 1990م، ص: (41). ↩︎
  43. نفسه. ↩︎
  44. عباس السوسوة، “الصحافة التعاونية في اليمن، عرض ونقد”. صحيفة 26سبتمبر، صنعاء، العدد (392)، 10رمضان 1410هـ ـ 5 إبريل 1990م، ص: (7). ↩︎
  45. نفسه. ↩︎
  46. عباس السوسوة، “المادة التاريخية في كتابات “نيبور” عن اليمن”. صحيفة الجديد، مرجع سابق، ص: (12). ↩︎
  47. عباس السوسوة، “الصحافة التعاونية في اليمن”. صحيفة 26سبتمبر، مرجع سابق، ص: (15،7). ↩︎
  48. عباس السوسوة، “المادة التاريخية في كتابات “نيبور” عن اليمن”. صحيفة الجديد، مرجع سابق، ص: (12). ↩︎
  49. انظر: عباس السوسوة، “العربية الفصحى المعاصرة وأصولها التراثية”. مرجع سابق، على التوالي، الصفحات: (165ـ 167)، (170ـ 173)، (231ـ 235). ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *