تيمة الهجرة في رواية عمار باطويل “طريق مولى مطر”
تعاطى الكاتب عمار باطويل ــ سرديًّا ــ في روايته “طريق مولى مطر”(1)، مع سياقات ومضامين متعددة. من أهمها سياق هجرة اليمنين، وارتحالهم في أصقاع الأرض؛ بحثًا عن الرزق والحياة الكريمة.
[1]: سياسة المحميّات
لقد أسس الاشتغال السردي، لمسار أحداثه. من خلال إشارته إلى صيغة العلاقة السياسية بين الحاكم البريطاني في عدن والمشمولين بحمايته من حكام السلطنات. ومن أولئك السلاطين، السُّلطان القُعَيْطي، الذي كان يحكم “حضرموت”: “أجْدادُ السُّلْطانِ وَقّعوا اتِّفاقيّة مع بريْطانيا بِأنّ تَحْميهُم مِن كُلِّ شَرّ وَحتّى مِن الرِّياحِ العَابِرة فوقَ قَصْره. وهذه الاتِّفاقيّة أطْلَقوا عليْها اتِّفاقيّة الحِمَايَة. فقطْ يَحمونَ مصَالحَ السُّلطان مُقابل نُفوذٍ سياسيٍّ في البِلاد. وَخوْفًا مِن نُفوذِ الدّولةِ العُثْمانيّة أنْ تُسَيطر علَى البَحر العَرَبيّ وتُعَرقل المَصالح البِريْطانيّة”(2).
ومن هذا التأسيس، تنطلق سرديةُ الحكاية. إلى ما حدث بين مجتمع البدو والحاكم الحامي، طيلة فترةٍ زمنيةٍ امتدت ما بين الثلاثينيات والستينيات من القرن العشرين. وقد ورد على لسان الشخصية الرئيسة “بركة”، ما يحيل على أسباب تلك الأحداث. حيث سمعت من زوجها الأول “سعد” ــ قبل أن يهاجر ــ تأكيده أن ما يتعرض له البدو لا يعني سوى مصادرة قوت أطفالهم: “منذ فجر التاريخ كانت القبائل تنتقل بالجِمال من أرضٍ إلى أخرى ومن البنْدر إلى الوادي تنقل البضاعة الآتية من مدن جاوة أو من مكة أو سواحل أفريقيا. ومن ثم تقوم بنقلها إلى القرى القابعة في عمق الوادي. فكل الطرق كانت لأصحاب الإبل. فكيف يريدون أن يقطعوا تجارتنا بالجِمال وفرض ضرائب علينا ندفعها لحكومة السلطان … فمنْعُ الجمال والتجارة بها يعني أن الطعام لن يصل إلى أفواه أطفالنا”(3).
وفي السياق نفسه، يأتي شعور سكان المحميات بالتهميش؟ قياسًا بما هي عليه الحال في عدن. وهو ما تستَرسلُ فيه “بَرَكة”، في اسْتِذكارها لِحديثِ “سَعْد” مَعها: “بريْطانيَا لا تَكْترثُ لمَصَالِحنا، ولَو كَانتْ برِيْطانيا تَهتَمّ بِنا لَبَنوا لَنا المَدارسَ [وَ] المسْتَشفيات كَما فَعَلوا فِي عَدن”(4).
وفي مسارٍ من التخصيب لسياقات العمل، وردت عددٌ من الإشارات السردية. التي تضمّنت شحنةً كبيرةً من الأنفة والكبرياء، والاعتداد بالشخصية البدوية المجبولة على الحرية.
[2]: سياق الهجرة
لقد كانت الهجرة من أهم مضامين هذا العمل. بسمتها التي قامت على غاية مالية في وجه من وجوهها. حيث ورد عددٌ من صورها، التي شكلت سياقًا سرديًّا متشابكًا مع الأحداث، وفاعلًا في مساراتها.
[2ــ1]: هجرة “سعد”
من صور الهجرة اليمنية التي تعاطت معها السياقات السردية، هجرة “سعد”، وموقفه مع زوجته “بركة”. وهي تحاول استعطافه؛ حتى يتراجع عن قرار السفر. لكن لم يلن موقفه. ولم يتخل عن غايته المالية: “لن أعود لهذه البلاد إلا وأنا محملٌ بكل كنوز الأرض”(5). هاجر، ونسي أن يعود(6). فتركت هجرته تداعياتٍ قاسية في حياة زوجته. وعذّبتها سنوات الانتظار، التي “تذبل فيها زهور الزوجة”(7).
لقد ترك سعد زوجته فريسةً لنوائب الزمن. حاولتْ أن تلتمس له العذر. لكنها لم تجد أيّ عذر يمكن أن يغير من طبيعة الزوج تجاه زوجته، فيصدّها، وينقطع عنها، فلا تعرف شيئًا من أخباره. تساءلت عن هذا الصد؟ لكنها لم تصل إلى إجابة. ولم تجد تفسيرًا مقنعًا لِما يُقدِم عليه الرجلُ من تركٍ لزوجته “وحيدة تواجه المجهول”(8).
[2ــ2]: آباء قيد الغياب
قدمت الرواية تداعيات الهجرة القاسية، في حياة الأبناء. من مثل ما ورد من تسريدٍ لحال التمزق الوجداني، الذي انسحقت به “فاطمة الطيارة”. فِي مَوقفٍ خاضتْ فيهِ جِدَالًا مع امْرَأةٍ فضُوليّة: “تسْألني سَعِيْدة عَن أَبُوي، ومَاذا يَفْعل فِي الأرضِ البَعيْدة ولِماذا لَم يَعُد؟ ومَا اسْم زَوْجته التِي تزوّجها …؟ كُلّ هذهِ الأسْئلة تُثيرُ حَنَقي”(9).
وقد استخدمت الفتاة ــ في ردها ــ طريقة المرأة نفسها: “ربما زوجك يا سعيدة سافر وتزوج عليكِ … فكل من سافر من بلادنا تزوج هناك؟ ولذلك طال السفر بزوجك وطاب له المقام”(10).
ثم عادت الفتاة، فتحدثت إلى نفسها: “أخفيتُ ما في نفسي، ولمْ أَبُحْ لِسَعيدة بِما يَدوْرُ فيْها، وَسألْت نَفسِي أَيْنَ أَبُوْي؟ وَلِماذا هَاجرَ وَلمْ يَعُدْ … غيابُ أبي الطّويل عنّي يجعَل حيَاتي ناقِصة وأشْعر أنّ لا معْنى لها بدون أب وأُمّ”(11).
لقد كبرت الفتاة، ومعها ترعرعت معاناتها: “كبرتُ وأنا لا أعرف أبي ولا أتذكر هيئته، كبرتُ وأنا أنتظره، متى سيعود؟”(12)؛ كون “الكثير من نساء الوادي قد هجرهن أزواجهن ولم يعودوا لسنوات. والأطفال يتألمون كما تتألم الزوجات”(13).
[3]: تعاسة مطّردة
حفلت رواية “طريق مولى مطر”، بعدد من السياقات السردية، التي تضمّنت تفاصيل من اطراد التعاسة في اليمن. لا سيما فيما يتعلق منها بمعضلة الهجرة القاسية.
وقد تكاثفت الإشارة إلى اطّراد هذه التعاسة، من خلال كثيرٍ من الإحالات، التي وردت مسبوقةً بجملة: “هذه البلاد”. بما في هذه الجملة، من دلالةٍ على التعميم والشمول: “وجوه أهل هذه البلاد التعيسة”(14). و”هَكذا هُم رِجالُ هذهِ البِلَادِ يُغادِرُونَ ولَا يَأتوْن”(15). و”مَثَله كمثل أهل هذه البلاد لا يستر عورتهم إلا خرقة”(16)، و”كل هذه البلاد شر”(17)، و”عقول الناس في هذه البلاد مغلقة”(18).
[4]: تقنيات سردية
قام المعمار السردي في هذه الرواية، على توظيف تقنيات سردية متعددة، اتسقت مع الغاية السردية. لا سيما اتساقها مع ما تسعى إليه الرؤية السردية، من تجسيدٍ لتداعيات الهجرة في المجتمع اليمني.
[4ــ1] اللغة السردية
تجانست لغة الرواية مع حيّزها السردي. من ذلك، اسم “الطيارة”، التي وردت ــ في الرواية كلها ــ بصيغة المحكية “الطيارة”، لا الفصحى “الطائرة”. وبذلك، جسّدتْ أُسْلوبيّة السّرد ــ بِهذه الصِّيْغة اللُّغويّة ــ تَجانُسًا مَع الحَيِّز السَّرْديّ، فِي حَيَوِيَّتهِ الاجْتماعيّة. التي يأتي في صدارة مكوناتها مستواه اللغوي، ومستوى ذهنية الإنسان فيه.
لقد كان استيعاب ذهنية الإنسان لهذا المعطى الحديث (الطائرة)، استيعابًا متسقًا مع المستوى الذي وصلت إليه الحياة والفكر والثقافة والمعاصرة في الحيز السردي لهذا العمل. حيث كان منظر هذا المعطى الحديث مخيفًا في تلك الذهنية، كما ارتبط صوتُه بكارثة قادمة.
[4ــ2]: تعدد الأصوات السردية
استثمر الكاتب في روايته تقنية تعدد الأصوات السردية. وباستثناء فصلين اثنين ــ السادس، الذي جاء على لسان “فرج”. والثامن عشر الذي جاء على لسان الولي ــ فإن صوت المرأة هو المستحوذ على فصول الرواية كلها. حيث تشاركتْه شخصياتٌ ثلاث: “فاطمة”، في الفصل الثاني. و”سعيدة” في الفصل الثالث. و”بركة”، التي استأثرت بنصيبٍ كبير من صوت المرأة، بلغ أربعة عشر فصلًا من فصول الرواية البالغة ثمانية عشر فصلًا. فقد كانت هي الصوت السردي، في الفصول: الأول، والرابع، فالخامس. ثم السابع، حتى الفصل السابع عشر.
وتحيل غلبة صوت المرأة السردي ــ في هذه الرواية ــ على تجانسٍ بين الأنثى ومضامين العمل. تلك المضامين، التي ارتبطت ارتباطًا رئيسًا بالمرأة اليمنية، في وادي حضرموت. وحملت صورًا من حياتها البائسة، المنهكة بمآسي الفقر وهجرة الرجال من أرض الوطن.
لا شك في أن اسْتثمارَ تقْنيَة التّعدد في الأصواتِ السرْديّة نسقٌ من أنساق التجديد الفنّي. وعلى ذلك، فإنّ الهيمنة التي تظهر عليها الرؤية الواحدة في العمل ــ وإِنْ تَعدّدَتْ الأصْواتُ السّرْديّة التي تَرْويْها ــ أمْرٌ غيرُ مُتّسقٍ مع ما تقوم عليه هذه التقنية السردية، من جوهريةِ التعدد في الرؤى حد التناقض فيما بينها.
وفي هذا العمل، هيمنت رؤيةٌ واحدةٌ. تعددت الأصوات التي روت أبعادها. بينما غاب الصوتان (سالم/ والنجدي). اللذان يحملان ما يمكن توصيفه برؤىً مغايرة. اضطلعتْ بروايتها الأصواتُ المتعددةُ ذاتُ الرؤيةِ الواحدة. وكان سرد تلك الرؤى المغايرة على ألسنة أصحابها، سوف يضفي على العمل زخمًا فنيًّا أكثر اتساقًا مع ماهية الاستئناس، بتقنية تعدد الأصوات السردية.