تغريبة الوطن في شعر ياسين البكالي

تغريبة الوطن في شعر ياسين البكالي

د. عبده منصور المحمودي

تمثّل تيمة الاغتراب ــ لا سيما ما يتعلق منها بمسارها الوجداني ــ واحدًا من أهم مكونات تجربة الشاعر ياسين البكالي(1). وإلى ذلك، فإن لهذا البعد ــ من تجربته الشعرية ــ سياقه القائم على العلاقة المصيرية بين الوطن والذات الشاعرة. ولعل من أبرز تجليات ذلك، ما قامت عليه سياقات التجربة الشعرية، في ديوانه “ثم قال الغريب..”(2). الذي تضمّن احتفاءً ملحوظًا، بتغريبة الوطن، وفاعليتها في صياغة الرؤية الشعرية فيه.

[1]: تغريبة الوطن
[1ــ1]: الاغتراب والتلاشي

لا تقف شعرية الاغتراب ــ في هذا العمل ــ عند حدود مضمونها وفضاءات المعاناة المحيطة به، بل تصل إلى منْحِ هذا المضمون قدراتٍ تُمكّنه من الذهاب بالذات الاغترابية إلى حالٍ من التلاشي، من مثل ما في هذا التجلي الشعري الراشح بالدمع؛ إذ يقول الشاعر:

“أنا الآن أبدو غريبًا

غريبًا إلى حدِّ أني الكتابُ الذي بعدُ لم يُكتبِ

أنا قصةُ الدمع حينَ يهرولُ من مقلةِ نحو أخرى

ليُصبحَ في الموقفِ الأنسبِ”(3).

لقد استأنس السياق الشعري، بماهية الكتاب الذي لم يزل فكرةً؛ للإحالة به على تلك الحال من التلاشي، التي تمكنت التجربة الشعرية من الوصول بالذات الشاعرة إليها. وبذلك؛ تبلور تجانسٌ بين فكرة استيعاب التلاشي، والمادة الفاعلة في صياغته تجربةً شعريةً ناضحة به، اغترابًا متناهيًا في تداعياته الفاتكة بالذات الشاعرة.

وفي امتداد التجانس التعبيري، عن حال التلاشي ــ هذه ــ تأتي صيغتُها مقترنةً بملامح الذات الشاعرة، في هذا البيت، الذي يقول فيه الشاعر(4):

وبي خوفُ الغريبِ وقد تَلاشتْ ** ملامحُهُ وصارَ بلا لسانِ

لقد تمثّلت الذات الشاعرة الذات الاغترابية. بما انتابها من خوف الغريب، الذي فقد الشعور بملامحه، بل تلاشت هذه الملامح، واكتملت مأساةُ الاغتراب، في فقدان اللسان. بما في هذا الفقدان من إحالةٍ على عوامل متعددة، فاعلة في مصادرة هذه الطبيعة الإنسانية.

[1ــ2ــ1]: تغريبة الوطن

بعد عددٍ من الإضاءات الشعرية ــ المترعة بتجربة الاغتراب وتداعياتها في الذات الشاعرة ــ تصل التجربة الشعرية إلى إثراء التجربة الاغترابية، من خلال إضاءة العلاقة بين الوطن والذات المسكونة بالاغتراب، في حاليها: غربتها بعيدة عنه، وغربتها فيه، يقول الشاعر في هذا السياق:

“أنا أنا وطنٌ

يبكي على وطنٍ

ودمعةٌ ما لها

في الخدِّ مُتّسَعُ”(5).

لقد تجسّدت تلك العلاقة ــ في هذه الدفقة الشعرية ــ من خلال التماهي بين طرفيها: (الوطن/ الذات الشاعرة). في حال من الحزن والمعاناة، التي نسجت التماهي فيها حالُ البكاء وما يفضي إليه، من إحالة التماهي الشعري بينهما على حال من التماهي الواقعي، الذي يتشكّل في سياقٍ من المعاناة اليومية، التي تسحق الإنسان وتفاصيل (المكان/ الوطن).

[1ــ2ــ2]: التلاشي وطنٌ مفقود

من أحوال التلاشي ــ التي تفضي إليها تغريبة الوطن ــ ما يقوم على الشعور بما ينتاب الوطن من تداعيات، يتخلّق منها نوعٌ جديد من التماهي بين الذات والوطن. ذاك التماهي، المرتبط بتمثّل ملامح الذات الاغترابية لصورة الوطن المفقود، من مثل ما يحيل عليه قول الشاعر(6):

كنتم معي ملء قاموسي وأخيلتي ** بيت القصيد الذي أدركتُ مدخله

وصورة الوطنِ المفقود نقرأُهُ ** على ملامحنا كي لا نُعلِّلَهُ

وفي السياق نفسه، يفضي هذا التماهي، إلى حسرةٍ تنمو توجُّعًا، تتمزق به الذات الاغترابية؛ إذ يشير الشاعر إلى ذلك بالقول(7):

ما ليسَ لي وطنٌ ولي أوجاعُهُ ** ما أوجعَ الإنسانَ يفقدُ موطِنَهْ

وعلى ذلك، لا بد من أن تجد الذات الشاعرة ــ والذات الإنسانية الاغترابية بوجه عام ــ أفقًا أوسع، تلوذ به من مشاعر الاغتراب وقسوتها. ذاك الأفق المتمثّل بالإنسان وطنًا ذا هويّة نصيّة، ناضحة بكينونة الذات الشاعرة، في قول الشاعر(8):

آمنتُ بالوطن الإنسانِ يعصفُ بي ** نصًّا شريفًا على كينُونتي رَبَتَا

[2]: اسم الشاعر والتوظيف الشعري

لقد استأنست التجربة الشعرية، بعددٍ من التقنيات الفنية والآليات، التي استطاعت من خلالها التعبير عن المعاني، التي تشكّلت بها السياقات الشعرية في هذا العمل.

[2ــ1]: جدوى استيعاب التجربة الشعرية

من ذلك، ما يتجلى في التوظيف الشعري لاسم الشاعر، في استيعاب بعضٍ من تجليات تجربته الشعرية. وأول صورة من هذا التوظيف، تظهر في الإشارة العابرة إلى اسمه، من غير تصريح به، في قوله(9):

مررتُ باسمي، كئيبًا كنتُ تحمِلُني ** رجلي إلى غيرِ ما أرجوهُ مِن ألقِ

ثم يتجلّى هذا التوظيف في إحدى الصور التعبيرية، التي استوعبت صيغًا من العلاقة الوجدانية مع المحبوبة، لا سيما وهي تلُوح ذات استطاعةٍ فاعلة، في حرق المسافات التي تفصل بينهما. يقول عن ذلك(10):

وأشعر أني الصغير الذي ** بأحضانها وجدَ المخبأ

وأنّ لأنفاسِها سطوةً ** تُقرِّبُ ياسينَ مهما نأى

الأمر نفسه، هو ما يقوم عليه تعاطي الشاعر مع اسمه، في تضمينه الإحالة على علاقته مع أصدقائه المقربين منه، مشيرًا إلى عثرة المعاني. تلك المعاني، التي كثيرًا ما أثقل بها ذاته الشعرية، يقول مخاطبًا إيّاهم(11):

قد اختبأتُ لديكم حدّ أن دمي ** بكم ــ إذ نقص الوجدان ــ أُكمله

حدّ التفاتي إليكم كلّما عثرَ المعنى ** لكثرةِ ما ياسينُ حمّلَهُ

[2ــ2]: التحييد والارتقاء

على تلك المساحات الشعرية ــ التي تجلّى فيها التوظيف الشعري لاسم الشاعر ــ إلّا أن ذلك لم يطرد. وإنما انتقل إلى سياق آخر، قائم على رغبة الشاعر في تحييد اسمه. ذلك هو ما استوعبتْه مضامين نصه “ضع اسمك جانبًا”. ومما ورد فيه قوله مخاطبًا ذاته:

“فضلًا

ضعِ اسمَكَ جانبًا

واكتبْ

أنا اسميَ لا يَدلُّ على جديدْ

يائي تُنادي ثمّ تأكلُ نفسَها بحثًا عن الجدوى

فيرجعُ صوتُها أوهى من القلق المكدّسِ

في عيون فتىً يُريدُ ولَا يُريدْ

لا دمعتي سالتْ ولا سيني تناولُ إجابةً غيرَ التي ألقى بها

حزني الشديدْ”(12).

لقد بلغ به اليأس مبلغه؛ إذ استوطنه الحزن وخسف بكائناته، التي ظل زمنًا يستمد منها ما يستطيع أن يجاري به الحياة. حد أن لا يجد في اسمه أية جدوى. لكنه يعود ليمنح الاسم نفسه صيغته الخالدة، التي تحرره من الحاجة إلى مقومات الحياة، بعد أن يتوارى في منزله الأبدي، إذ يقول مخاطبًا قبره:

“لا بأسَ يا قبري

ستَحفرُكَ الحكاياتُ القديمةُ

لم يعُدْ ياسينُ

مُحتاجًا لبيتٍ

صارَ يرمي باسمِهِ

للريحِ”(13).

وها هو الشاعر يغادر الحياة، صبيحة يوم الخامس عشر من مايو 2025م؛ إذ لم يعد بحاجة إلى أي شيء. وفي سياق ذلك؛ لم يجد ضيرًا من التخلي عن اسمه، الذي أطلقه للريح، ليس تفريطًا فيه، بل سموًّا به؛ لتطوف أجنحة الريح به الآفاق، شفافًا نقيًّا، بنقاء روح شاعره المتجددة، في منجزه الشعري الباذخ في خلوده.

.

لروحك السكينة والسلام!

ولمنجزك الشعري آفاقُ التحليق في فراديس الخلود!


  1. توفي الشاعر ياسين محمد البكالي، هذا اليوم، صبيحة الخامس عشر من مايو 2024م. ↩︎
  2. ياسين محمد البكالي، “ثم قال الغريب”. دار يسطرون، القاهرة، 2024م. ↩︎
  3. نفسه، ص137. ↩︎
  4. نفسه، ص154.ز ↩︎
  5. نفسه، ص52. ↩︎
  6. نفسه، ص79. ↩︎
  7. نفسه، ص82. ↩︎
  8. نفسه، ص38. ↩︎
  9. نفسه، ص6. ↩︎
  10. نفسه، ص120،119. ↩︎
  11. نفسه، ص80. ↩︎
  12. نفسه، ص143. ↩︎
  13. .نفسه، ص103. ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *