ظهيرة وصفحة أكاسيا
تهادى إلى مسامعِ خالد صوتٌ من حديقة منزله. لم يخالجْه شكٌّ في أنَّ مصدرَ الصوتِ هو حسن البستاني. لا سيما وموعدُ عمله ــ حينما يأتي للعمل في الحديقة ــ يبدأ الرابعة مساءً.
لذلك؛ استمرّ خالد، فيما هو منهمكٌ فيه من ردودٍ على تعليقاتِ أصدقائه، المتفاعلين مع منشوره الأخير على صفحته “الفايسبوكية”. الذي كان قد ضمّنه بعضًا مِن رؤاه، في الاستدامة البيئية. كانت نوافذُ مجلسه ــ تلك اللحظة ــ مفتوحةً؛ لتعملَ على تلطيفِ أجواء “يوليو” الحارّة. فهو يُفضِّلُ هذه الطريقةَ الطبيعيةَ، المتناسبةَ مع اعتدالِ مناخ مدينته. حيث لا يلجأ إلى تشغيل “المُكَيّف”، إلّا في حالاتٍ محدودة.
لم يكن حسن البستاني
توقّف خالد في منتصفِ فكرةِ واحدٍ من ردودهِ على تلك التعليقات. بعدما تَنَبَّهَ إلى أنّ اليوم هو يوم “الأحد”، وليس واحدًا من يومي “الثلاثاء” أو “الأربعاء”، اليومين اللذين يأتي البستاني للعمل في عَصْرِيَّتِيْهما. فقد حرص ــ في اتفاقِ عمله الإضافي ــ على ألّا يكون لهُ تأثيرٌ، على وظيفتهِ الرسميةِ بستانيًّا في المؤسسة الحكومية نفسها، التي يعمل فيها خالد. ولا على عصاري انشغاله بأسرته، واحتياجاتها.
كما حرص خالد ــ في الاتفاق نفسه ــ على أن يتيح لنفسه مجالًا للتردد على الحديقة. حيث يبدأ منها يومَهُ في الصباح الباكر. مُتَوَلِّيًا بنفسه ريّ أشجارها الجديدة، أو تلك التي تحتاج إلى ريٍّ يومي.
أمّا أعمالُ الحرثِ والتسميدِ والتقليمِ وما شابه ذلك، فمن مهمات حسن. وحينما يستدعي بعضُها وقتًا ــ لا تُغَطِّيْه عَصْريّتا الاتفاق ــ يستقدمُ خالد عددًا كافيًا من عُمّالِ اليومية. ويقوم حسن البستاني بالإشراف عليهم؛ إذ يُرَتِّب استدعاءَهم في صباحِ واحدٍ من يومي “الثلاثاء” أو “الأربعاء”؛ يغادر بعد أن يعطيهم التعليمات التفصيلية. ثم تتزامن عودتُهُ إليهم، مع موعدِ عملهِ المعتاد في الحديقة من عصرية اليوم نفسه. يشاركهم العمل، كما يُوَجّههم إلى ما سيقومون به في اليوم التالي، فيما لو كان هناك ما يستدعي إنجازه.
حيرةُ خالد في مصدرِ الصوت، حالت دون استكمالهِ الردَّ الذي لم يستوفِ فكرتَه. قام من مُتّكَئه إلى النافذة، لم يُصَدِّق ما تراه عيناه. مها ــ شريكة حياته ــ هناك، ممسكةٌ بيدها رفشًا صغيرًا، تنقشُ به حوضًا ترابيًّا تتوسّطه شجرةُ “أكاسيا”.
لم يتوقع ذلك منها على الإطلاق؛ حيثُ لم يسبقْ له أنْ رأى منها أيّ اهتمامٍ بالحديقة. كما أنها لم تُبْدِ يومًا أبسطَ توافقٍ مع أفكارهِ وسلوكياتهِ، التي كثيرًا ما يقول إنها تندرجُ ضِمْنَ غايةِ الاستدامة البيئية. لم يستطع تفسيرَ الأمر. ولم يستطع تخمينَ ما ترمي إليه. أهو تغيرٌ في أفكارها وسلوكها؟! أم أنّ هناك أمرًا يجهله؟! الحَيرةُ جاثمةٌ على تفاصيل اللحظة، وعليه أن يبددها باقترابه من أسرارها.
خطوات حياةٍ هانئة
قبل خمسة عشرة سنة، زُفّتْ مها عروسًا إلى خالد. التي كانت حبه الأول والأخير. استهَلّا حياتهما الزوجية، في شُقّةٍ من منزلِ أبيه الواسع وَسَطَ المدينة. فيها رُزِقا مولودُهما البكرُ رمزي، الذي بلغ الحادية عشرة من عمره. ثم سحر المترعة بربيعها السابع. أما نجوى ــ التي أطفأت شمعتها الثالثة في مارس الفائت ــ فقد وُلدتْ في المنزل الجديد. الذي انتقلا إليه قبل سنواتٍ خمسٍ، من تلك العصريةِ المُؤَثَّثةِ بصوتِ الرفش، القادم من حوض شجرة “الأكاسيا”.
محظوظٌ خالدٌ بحكمة أبيه؛ فلولاها لما وصل إلى استقلاليته المالية والحياتية. فقد اعتاد أبوه على أن يعطي كل واحدٍ من أبنائه ــ فوْرَ زواجه ــ مبلغًا من المال، يكفيه لأن يبدأ مشروعًا خاصًّا به. خالد سلّمَ المبلغَ الخاص به ــ بعد استلامه ــ إلى صديقه الحميم خلدون. الذي يربطُه بهِ تاريخٌ طويلٌ، من الثقةِ والوفاء المتبادل. تَدَبّرَ خلدون مبلغًا مساويًا لمبلغ خالد، وفي الحيِّ ــ الذي يقيمان فيه ــ اشتركا في تأسيسِ مَحَلٍّ لبيع المواد الغذائية.
سرعان ما تنامى رأسُ مالِ مشروعهما. فأسّسا مشروعَ “سوبرماركت”، في سوق المدينة المركزي. وعلى عائدات تجارته ــ هذه، التي يعتمد في إدارتها كُليًّا على صديقه خلدون ــ يعيش خالد حياتَه كما يحب. غير مُفرّطٍ في وظيفته، التي يجذبُه إليها تواؤمها مع ميوله وهواياته. فهو يستمتع في عملهِ مديرًا للفعاليات الثقافية في المكتبة العامة، التي يُشار إلى أنّها دينامو الفكر والإبداع والثقافة في مدينته. كما كانت ــ تلك العائداتُ ــ مصدرَه الرئيس في تمويلِ إنجاز مشروعِ منزله. الذي يتراءى مُحاطًا بحديقته من جهاته الثلاث. ومن جهته الخلفية، تُفضي بوابةُ سوره إلى حوشٍ صغير، فيه جراجٌ يتّسعُ لسيارتي خالد ومها.
حديقة منزل خالد
كان منزل خالد ــ بحديقته وخصائص بنائه ــ تجليًّا واقعيًّا لفلسفته. تلك الفلسفة، التي تقوم عليها تفاصيلُ حياتهِ، برؤاها في البيئة فاعلًا جوهريًّا في رفاهية الواقع والمستقبل. شريطةَ الحفاظ على استدامتِها الطبيعيةِ. من خلال سلوكيّاتٍ يوميةٍ، فردية ومجتمعية.
تتنَوّعُ حديقةُ منزل خالد، بين: أشجارٍ مُعَمّرة، وأشجارِ فاكهةٍ، مع لفيفٍ من أشجارِ الزينةِ، الباذخةِ في تَنَوّعِ ورودِها وألوانِها وروائحِها. وإلى ذلك، نباتاتٌ عشبيةٌ متنوعةُ الثمارِ، كـ: “الباندورا”، و”الفلفل الأخضر”، وما شابه ذلك، ممّا يدخلُ في الاستهلاك المنزلي. الذي يحرص خالد على أن يكون لحديقتهِ نصيبٌ فيه، مؤكِّدًا أن ذلك مشاركةٌ بسيطةٌ، فيما يُسْهِمُ في تحقيقِ أهداف الاستدامة البيئية. وهو الإسهامُ الذي يحرص عليهِ، من خلالِ استخدامهِ لـ “السّماد البلدي” المتكَوِّن من مخلفات الحيوانات. كونَه بذلك ــ من وُجهة نظره ــ يحافظُ على صحة التربة.
في زاويةٍ خلفيةٍ من الحديقة، تقوم غرفةٌ صغيرة. يُطلق عليها خالد “مخزن الحديقة”. جَمَعَ فيها كلّ ما تستدعيه حاجةُ العمل الزارعي: رفوش، مناجل، مجارف، فؤوس، معاول، مقص الشجر، مبيدات حشرية، مِرَشّة مبيدات،… وعلى تلك الغرفة يتربّع خزانٌ خرسانيٌّ كبير، متصلٌ ــ عبرَ أنبوبٍ مصنوعٍ من البلاستيكِ ذي الضغط العالي ــ بالخط البلاستيكي، الذي تلتقي فيه مياهُ مزاريبِ السطح، في موسم المطر. فتصل مياهُ السطح مباشرةً إلى الخزانِ. ويظل محبسُ أنبوبِه المتّصلِ بمنظومةِ ريِّ الحديقةِ مغلقًا. يُفتحُ في عمليةِ الري؛ فتتدفق المياهُ عبرَ شبكةٍ من الخراطيم البلاستيكيةِ، المصمّمةِ للري بطريقةِ الرشّ الحديثة. وهي شبكةٌ مزودةٌ بصمّاماتٍ متعددة، وتمتدُّ إلى أحواضِ أشجارِ الحديقةِ ونباتاتها، على اختلاف أشكالها ومساحاتها.
تُلبّي مياهُ الخزان قَدْرًا ــ لا بأسَ بهِ ــ من حاجةِ الحديقة إلى الماء. وفي المواسم غير الممطرة ــ وكذلك حينما تتباعد فتراتُ سقوط المطر ــ يستعينُ خالد بمياه المشروع العام. وليس عليهِ ــ في هذه الحال ــ سوى أن يفتح المحبسَ المتموضعَ، في بداية الخطّ المتصلِ بمنظومةِ ري الحديقة. والذي يُعَدّ أولَ تفريعةٍ، بعد عدّادِ مياهِ المنزلِ مباشرة.
رؤيتان متعارضتان
ترتيباتُ الريّ ــ تلك ــ كانت مها ترى أنها ترتيباتٌ مبالغٌ فيها. فخالد قادرٌ على ريِّ الحديقةِ من مياه المشروع العام، مهما ارتفعت فاتورة التكلفة. لا سيما وأنّ هذه الطريقة هي الأكثر جدوى واستمراريةً من الطريقة السابقة. لذلك؛ فلا حاجة إلى تلك الإجراءات. بل لم تكن هناك حاجةٌ إلى بناء خزانٍ للحديقة، من وجهة نظرها.
لكنّ خالد يختلفُ معها؛ فهو يرى أنّ اعتماد ري الحديقةِ على المشروع العام ــ وحده ــ سلوكٌ متعارضٌ مع أهداف الاستدامة البيئية. وكثيرًا ما كان يردّد على مسامعها القول: “يجب ــ يا مها ــ ألّا نستحوذ على حقوقِ غيرنا من الأجيال القادمة في الماء، ولا في غيره من مكونات البيئة. علينا أن نحافظ على هذه البيئة. حتى تصل إليهم سليمةً مستدامة. وسيفعلون هم الأمرَ نفسه؛ حفاظًا عليها للأجيال، التي ستأتي بعدهم”. كما كان يؤكدُ، على الدورِ الذي يلعبه السلوكُ الإيجابي الفردي الفاعل في تحقيق أهداف الاستدامة البيئية. وفي صدارة ذلك، غَرْسُ الأشجار ورعايتها ــ لا سيما المُعَمّرة منها ــ فذلك إسهامٌ في توفيرِ نسبةٍ، من حاجةِ الجيلين ــ الحالي والقادمِ ــ إلى الهواء المُنَقّى من الشوائب السامة. ذلك؛ لأن الأشجار تمتص غاز “ثاني أكسيد الكربون”، وتنتج في المقابل غاز “الأكسجين”.
لم ينل موقفُ مها المُتَصَلِّب من حماس خالد. فهو يرى أنه يؤدي واجبًا إنسانيًّا وكونيًّا. وعليه ألّا يتقاعس عنه مع مها ومع غيرها. لا سيما وهو يرى أثرَ ذلك، في أصدقائه الذين تفهّموا رؤاه ــ وبوجهٍ خاصٍّ ــ أولئك الذين زاروا حديقته. وأعجبوا بها، فألْهَمَتْهم التفكيرَ في محاكاتها. منهم مَنْ حوَّلَ جزءًا كبيرًا من حوشِ منزله إلى حديقة، عِوضًا عن شجيراتٍ محدودةٍ كانت في زواياه. ومنهم مَن صارت الحديقةُ مِنْ تفاصيلِ منزلهِ المأمولِ، الذي لا يزال ضمن أهدافه المستقبلية.
أليس هذا مبدؤك يا خالد؟!
لم يَطُلْ تحديقُ خالد في مها، وفيما تقومُ به من عملٍ في حوضِ شجرة “الأكاسيا”. استدار من نافذةِ المجلس، مُتَّجِهًا نحو بابه المفضي إلى صالةٍ ممتدةٍ حتى البابِ الخارجي. الذي تجاوزَ خالد المسافةَ ــ الفاصلةَ بينهُ وبين مدخلِ الحديقة ــ بخطواتٍ متسارعة، تباطأت مع اقترابهِ من مها بتمهلٍ حالَ دون إحساسها بوصوله، إلا حينما سمعتْ تحيّته لها.
الْتَفَتتْ إليه، ردّت التحية. حاولت التشاغلَ بما هي فيه. لكنه عاجَلَها: “مها! ما هذا الذي تَفْعَلِيْنَه هنا؟!”، سألها خالد. “لا شيء، فقط أُسهمُ ما استطعتُ في الحفاظ على استدامةٍ بيئية. أليس هذا مبدؤك؟!”، أجابت. “لم تتوافقي معي في ذلك من قبل، كيف تغيّر رأيُكِ بهذه السرعة؟!”، عقّب خالد. ضحكتْ، فزادت ضحكتُها من حيرته،. مدّت مِنْ قامتها ــ التي كانت في وضعيّةِ القرفصاءِ، المتناسبة مع ما تقوم به من عمل ــ كان الرفشُ لا يزال في يدها. رَمَتْهُ إلى حيث كانت تعمل به. نظرت في وجه خالد بابتسامةٍ تتوشّحُ وجهها: “ستعرف كيف تغيّر موقفي”، قالت، وهي تخطو خطواتٍ وئيدةٍ. تداعت معها خطواتُ خالد؛ فاسْتَهَلّتْ أقدامُهما كتابةَ تِجْوَالِهما الحاني في شَغَفِ ترابِ الحديقة. كما استَهَلّتْ مها إطلاعَه على تفاصيلِ حالها، التي ضاقت بها ظهيرةَ اليوم نفسه.
ازدحام الظهيرة
في الساعة الواحدة من تلك الظهيرة، كانت مها على مِقْوَدِ سيارتها، وسط المدينة، عائدةً من المدرسةِ التي تعمل فيها مُدَرِّسَةً لمادة “الرياضيات”.
كان المكان في ذروة ازدحامه، التي اعتاد على بلوغها في مثل ذاك التوقيت. حيثُ يمتدُّ سِربانِ طويلان من السيارات. في منتصف واحدٍ منهما كانت سيارةُ مها، التي تكررت استجابتُها لحتميةِ الوقوفِ المتكرر، بعد كلِّ انفراجةٍ يجودُ بها التّحَرُّكُ المتقطع.
داهمتْ مها حالٌ من ضيقِ التّنَفُّسِ، التي تعطي إحساسًا بأن كمية الهواء المتاح تتناقص. فيما كان وجهُها مدرارًا بسيلٍ من العرق الساخن.
همّت برفع زجاجِ نوافذ السيارة؛ ليقومَ “المُكيّفُ” بدوره في التعاطي مع اللحظة. لكنها غير مستعدةٍ لأن تُصاب بالصداع النصفي، الذي تخشاهُ أكثر من خشيتها ضيقَ حالِها تلك. ويزعجها أكثر من ضجيجِ “الهورناتِ” الكثيفةِ في إحالاتها على نَزَقِ أصحابها، وعلى آثارها السلبية بيئيًّا؛ بحسب أفكارِ خالد المُصغي إليها بصمتٍ، في تلك اللحظة من العصرية الاستثنائية.
تنَبّه خالد إلى توقُّفها عن الكلام. لاحَظَها تتأملُ في شجرة “جوافة” امتدّتْ أغصانُها؛ فتداخلت مع أغصانِ شجرة “مانجا”. “هذه نبتت تلقائيًّا؛ فتركناها على قُرْبِها من شجرة المانجا، وها هي تنسج علاقةً مع شجرةٍ مختلفةٍ عنها!”، قال خالد، مُجيبًا على سؤالٍ لم تتفَوَّهْ به مها. لكنه خمّنهُ في تأَمُّلِها، واستوعبَ تَفَهُّمَها لإجابتهِ من هزّةِ رأسها، وهي تستأنف حديثَها عن ظهيرتها القاسية.
ملصقاتٌ لاستدامة الحياة
حينما كان يعبث بها الضيقُ وسط المدينة، لاحظت مها مجموعةً من الشباب. يمرّون على السياراتِ، مستغلّينَ لحظاتِ الوقوفِ المتكرر. يوزعون ما في حوزتهم، من منشوراتٍ وملصقاتٍ على السائقين. أحدهم تقدّم نحوها، مدّ إليها شيئًا مما لديه. أخذَتْهُ منه بتذمُّرٍ لم يغبْ عن فطنته. لكنه وزملاؤه قد اعتادوا على ذلك، في كثيرٍ من مبادراتهم الطّوعيةِ، الهادفة إلى توعية الوسط الاجتماعي، بأهمية الاستدامة البيئية، وطُرِق المشاركة فيها.
ألقتْ مها نظرةً عَجْلى، إلى تلك المنشورات والملصقات ــ بعد أنْ وضعتْها على يمينها في مقعدِ الراكبِ الشاغر؛ حيثُ لا أحدَ معها، في سيارتها “السنتافي”، ذات اللون الأحمر ــ شدّ انتباهَها جمالُ الخطِّ العريضِ الأخضرِ، الذي كُتِبَ به المُلصقُ المستقرُّ في مرمى عينيها. كان مُتضمّنًا العبارةَ: “اجعلْ حوشَ منزلك حديقةً تُعشبُ أغصانُها في آفاقِ المستقبل”.
ثم ملصقٌ آخر، لم يكن أقلّ جمالًا من سابقه: “بشجرةٍ واحدةٍ، تستطيع مواجهةَ الاحتباسِ الحراري، تستطيعُ الإسهامَ في الاستدامةِ البيئية”. أخَذَتْهُ، فكّرَتْ في معانيه. تلك المعاني التي كثيرًا ما سَمعَتْها من خالد. لكنّها لم تستوعبْها منهُ، كما استوعبتْها من حالها الحرجةِ تلك. التي ربَطَتْها ــ تلقائيًّا ــ برؤاه، واستَدْرَجَتْها إلى التفكير في البناياتِ المصطفّةِ على جانبي الشارع. والتفكير في صورتها غيرِ المُتّسِقةِ مع أهداف الاستدامة البيئية. تلك الأهداف التي تعطي الحديقةَ نصيبًا من مساحةِ كلِّ بناية، لا أن تكون المساحةُ كلها مزروعةً بهذه المستطيلات الإسمنتية.
نَبَتَ في تفكير مها تساؤلٌ مفاجئ، مضمونُه: هل كانت ستعاني تداعياتِ الاحتباسِ الحراري وَسَطَ المدينة. فيما لو كانت بناياته على تلك الصورةِ، من الاستدامةِ البيئية المُتَشَكِّلةِ في خيالها؟ “طبعًا لا!” كانت إجابتُها الفوريّة.
رأت ابتسامةَ خالد مضيئةً وجهَه، على وَقْعِ سماعهِ إشارتَها إلى أنّها تذكّرتْ رؤاه البيئية. تداعت مثله بابتسامةٍ رقيقةٍ. واستأنفت نظراتها التأملية في أشجار الحديقة. بينما عاد هو بنظراته إلى الأرض، تاركًا لمسامعهِ لذةَ الإصغاءِ لحديثها. وتاركًا لخطواتِهِ متعةَ التداعي مع خطاها البطيئةِ. التي تتخلّلُها وقفاتٌ طويلة. لكنها مختلفةٌ عن وقفاتِ الظهيرة، بما تكتنزه من مشاعر التماهي بين ذاتيهما.
رؤية واحدة
لم تُخْفِ مها عن خالد أنها كانت، وهي تستدعي رؤاه، تحاول البحثَ عن مبررٍ يعفيها من اتفاقٍ معه، بدأتْ تشعرُ أن الظهيرةَ تدفعها إليه.
لقد حاولت إعادةَ سببِ حالتها الحرجةِ ــ تلك ــ إلى عدم استطاعتِها استخراجَ قرارِ نقلٍ، إلى المدرسة القريبة من منزلهما. بعدما حاولت مرارًا نيلَ الموافقةِ الإدرايةِ على النقل، من إدارة المدرسة التي تعمل فيها. لكنْ حالَ دون ذلك تَمَسُّكُ إدارةِ مدرستِها بها. فهي لا تريد أن تخسر واحدةً من أبرزِ أعضاء هيئتها التعليمية الفاعلة.
هَمَّ خالد بمداخلةٍ. لكنّها استطردت: “قلتُ لنفسي: هل استصداري لقرارِ نقلي سيحلُّ مشكلتي مع الاحتباس الحراري وسط المدينة؟! نعم؛ سيحل مشكلتي في وصولي إلى مَقَرِّ عملي وعودتي منه. لكنني قد أَمُرُّ من وسط المدينة؛ لأي غرض آخر غير العمل! حتى لو لم أكن في حاجة إلى ذلك؛ فالمشكلةُ باقيةٌ. هل ما يهمني هو حلُّ مشكلتي وحدي؟! هذا ما يبدو في سياق رؤيتي! هذه أنانية!!. لابد من أن أهتمّ بمشكلة غيري. لابد من أن أفكر في حلّ أيّة مشكلةٍ عامة. والعمل على حلّها؛ وفقًا لما يتناسب مع إمكانياتي المتاحة”.
هكذا، وَجَدَتْ مها نفسَها، تتقاربُ شيئًا فشيئًا مع رؤى خالد. حتى اتّحَدَتْ به؛ فكانت المُتحَدِّثةَ بلسانه، وهي تتساءل: “كيف ستكونُ حالُ مَنْ سَيَمُرُّ مِن هنا بعد سنوات؟ لم يُفكر السابقون باحتياجات الأجيال القادمة! تفتقر هذه الغاباتُ الإسمنتية إلى أشجارٍ تُجَدِّدُ من هوائها. لقد صادر السابقون حقَّنا في الهواءِ النقي، بهذه الصفوف من البنايات. ونحن علينا ألّا نصادرَ حقّ الأجيالِ القادمةِ، في استدامةٍ بيئيةٍ آلت إلينا”.
اشتبكتْ نظراتُهما في سيمفونيةِ الأصيلِ، التي تعزفها ابتساماتُهما بتماهٍ وجداني متناغم. تَأَمّلا تعريشةَ نباتاتِ “الجُهَنّمِيّة”، التي كان بعضُها قد وَصَلَ تَسَلُّقُهُ، إلى تأطيرِه سياجَ “بلكونةِ” المجلسِ الطويلةِ المُطِلّةِ على الحديقة. والتي تداعتْ ــ بصمتٍ في ذاكرتيها ــ مواقفُ مِنْ تَسامُرِهما فيها، واستمتاعِهما بالنظرِ إلى تلك التعريشة، واستنشاقِ الرائحةِ الطيبةِ المُتَضَوِّعةِ من شجرة الليلِ المتشابكة معها. توقّفَ تداعيهما الاستذكاري، مع صوتِ مها، الذي واصلَ استدعاءَ تفاصيلِ حال الظهيرة.
منشور شجرة الأكاسيا
هناك ــ في ازدحامِ وَسَطِ المدينة والوقوف المتكرر فيه ــ أعادت مها النظرَ إلى ملصقات الاستدامةِ البيئيةِ ومنشوراتها في مكانها من مقعد الراكب. كان في انتظارها منشورٌ ذو تفاصيلَ جماليةٍ مُلْفِتة: أوراقُهُ المصقولةُ اللّامعة، عناوينُهُ الفرعية الملونة، فقراتُهُ المنتظمة… أخَذَتْهُ، وبدأتْ في قراءته.
استوقفتْها في المنشور شجرةٌ كبيرةٌ خضراءُ، على هيئةِ مِظَلّة، شَغَلَتْ حَيّزًا كبيرًا من ثاني صفحاته. كُتِبَ أعلاها بخطٍّ عريضٍ “شجرة الأكاسيا”. وعلى جانبيها وتحتها تفاصيلُ هذه الشجرةِ، وخصائصُها وأرقامٌ ونِسَبٌ متعلقةٌ بها: “شجرةُ أكاسيا واحدةٌ: تنتجُ ما مقداره سبعمئة كيلو جرامًا من غاز الأكسجين. وتمتصُّ عشرين كيلو جرامًا من غاز ثاني أوكسيد الكربون،….”.
تَحَرَّكَ سِربُ السياراتِ أمام سيارة مها؛ فلم تكمل قراءةَ بقيةِ تفاصيلِ الصفحة. أعادتْ المنشور إلى مكانه. أدارت مُحَرّكَ السيارة، كانت تلك الانفراجةُ هي الأخيرة. وصلتْ مها إلى حوش منزلها. ترجّلتْ من سيارتها وهي تتأبّطُ ملصقات البيئة ومنشوراتها. لم تتجاوز صالة الاستراحة؛ إذ استلقت على أريكتها، واستكملت قراءةَ خصائصِ شجرة “الأكاسيا”: “تمتصُّ ثمانين كيلو جرامًا من الترسُّبات الضارة في التربة، مثل الرصاص، والزئبق… جميلة المظهر. رائحتها طيبة. طاردةٌ للحشرات كالبعوض والذباب. سريعةُ التكاثر. مقاوِمةٌ للجفاف. مُورِقةٌ خضراء طيلةَ أيام السنة،…”.
لم تنتهِ مها من قراءةِ ما في يدها، إلّا وقد انتهتْ رؤى خالد من إعادةِ ضبْطِ قناعاتها، وتشكيلها. أطلّتْ من النافذة. نظرتْ إلى حديقة المنزل، تزامنتْ نظرتُها ــ تلك ــ مع اتّخاذها قرارًا باتًّا. أَلْزَمَتْ فيه نفسَها بالمشاركةِ الفاعلةِ في الحفاظ على استدامةٍ بيئية. وفي عصريةِ اليومِ نفسه، كانت خطوتها التنفيذية الأولى؛ إذ دخلتْ الحديقةَ بروحٍ جديدةٍ غير مسبوقة. لاحظت رفشًا توقّفَ عند استلقائهِ نبْشُ التربةِ وتحريكُها في حوضِ شجرةِ “أكاسيا”؟ لم يتركْ احتفاءُ مها بتَحَوُّلِ رؤيتِها الجوهري لها مجالًا؛ لتخمّن أسبابَ تَوَقُّفِ حسن البستاني عن استكمال العمل في ذاك الحوض. إذ وجدتْ نفسَها هي مَن يستكملُه.
تماهي الرؤى والعاطفة
“اقترابُكَ المباغتُ منّي حالَ دونَ استكمالي أوّل خطوةٍ في حياتي الجديدة. سأذهب الآن لاستكمالها”، قالت مها. لكنّ خالد، كان له رأيٌّ آخر؛ كون ذلك العمل متناسبًا مع قدرات البستاني، لا مع طبيعتها هي ولا مع انشغالاتها. نظرت إليهِ بارتيابٍ، فَهِمَ منه معنى إصرارِها على أنْ تكونَ لها بصمةٌ في الحديقة. فاقترح عليها أن تتقاسمَ وإيّاهُ صباحات الري من كل أسبوع. وافقتْ بامتنانٍ. سألها عمّا ترى نفسها قادرةً على فِعْله. أدْهَشَتْه ببرنامجها القادم: غدًا ستوزّع تلك الملصقات والمنشورات على زميلاتها في المدرسة. ستناقشهنّ في مضامينها. ستعملُ على رفعِ مستوى وعي طلابها وطالباتها بأهمية الاستدامة البيئية، وأهميةِ الإسهامِ في تحقيق أهدافها، على مستوى المؤسسات الرسمية والخاصة، وعلى مستوى الفرد والأسرة والمجتمع. ستشاركُ في أيَّةِ مبادرةٍ طوْعِيّةٍ، في هذا الاتجاه. لن تُفرّط في مشاركةِ خالد شرفَ تربيةِ أولادهما، على هذه القيمةِ الإنسانية البيئية الراقية.
كان خالد يستمع إليها بإعجاب. فيما كانت خطواتُهما عائدةً بهما إلى المنزل. ولم يشعرا كيف وصلا إلى نافذةِ المجلس نفسها، التي نَسَجَت استغرابَ خالد مُحَدِّقًا في مها وحوض شجرة “الأكاسيا”. ثم نَسَجَتْ فيهما ــ بعد ذلك ــ سعادتَهما وارفةَ المودة: سعادة مها، بما وصلتْ إليهِ، من معنىً جديدٍ لحياتها القادمة. وسعادة خالد، بما وصل إليه، من إنجازٍ توعوي، على هيئةِ امرأةٍ متَّفِقةٍ معه في فلسفته البيئية. امرأة لم تَعُدْ شريكةَ حياتهِ فحسب. وإنما شريكة رؤاه وأفكاره. شريكة فاعلة في الإسهامِ المجتمعي الهادفِ إلى إنجازِ مشروعِ الإنسانيةِ المعاصر. مشروعِ الاستدامةِ البيئية، الذي تكمنُ فيه إمكانياتُ تلبيةِ احتياجات الحاضر، من غير المساسِ باحتياجات المستقبل.
***