مآخذ التحقيق والترجمة في مقاربات النقد المنهجي
تشكّل الملاحظات والرؤى المنهجية التي تتعاطى مع طرائق التحقيق والترجمة نسقًا من أنساق النقد المنهجي. وهو ما كان له حضوره ضمن إسهامات الأستاذ الدكتور عباس السوسوة في اشتغاله على النقد المنهجي.
[1]: مآخذ التحقيق
[1ــ1]: مآخذ تحقيق ديوان “نزهة النفوس ومضحك العبوس”
يقف الدكتور عباس السوسوة على طريقة الدكتورة منال محرم عبد المجيد، في تحقيقها لديوان ابن سودون البشبغاوي: “نزهة النفوس ومضحك العبوس”، فيبدي ملاحظاته على ذلك، بدءًا بقوله:
“إن بين هذا العمل والتحقيق بُعد المشرقين، وإنه لا يجوز أن يصدر عن طالب يبدأ خطواته الأولى في تعلم مبادئ التحقيق”(1).
ومن المآخذ والعيوب التي أخذها على منهجية تحقيق هذا الديوان، تكرار النصوص؛ إذ “تكررت في العمل (المحقق) نصوص كثيرة، نتيجة منهج التحقيق القائم على الاختيار من كل المخطوطات، ثم إهمال ترقيم النصوص: نثرية وشعرية”(2). ومن الأمثلة التي أوردها على هذا التكرار، قوله:
“في ص 51(3) بيتان أولهما “إذا شاهدت بدر الدين يومًا” تكرار في ص96″(4).
كذلك هي مآخذه على المحققة، في ما وقعت فيه من أخطاء في كتابة الشعر. وقد أورد أمثلة لذلك، في أكثر من عشر صفحات، يذكر فيها الخطأ الذي وقعت فيه المحققة، مع تصويب هذا الخطأ. من مثل:
“37ب9
عيني وُسقت دمعًا وسقت ** خذّي به وقد نفدا
صوابه: وَقدٌ”(5).
كذلك، أخذ عليها، أنها لم تجعل “إحدى المخطوطات أمًّا، بل كانت تنتقي من المخطوطات والمطبوعة ما تريد، وفي أغلب الأحيان تختار القراءة الرديئة للفظ أو العبارة فتثبتها في المتن، وتلقي القراءة الأولى في الهامش”(6). ومن شواهده على ذلك:
“50ب12:
منعه خديده ** بعيد ما قد نعّمه
صوابه في هـ (2): في و: منّعم”(7).
وغير ذلك، من المآخذ على محققة هذا الديوان، الذي حصلت بتحقيقها له على درجة الدكتوراه في الآداب من جامعة عين شمس، إذ كانت هذه المآخذ والأخطاء نوعًا من العبث، الذي وصل بهذا الديوان إلى كمال التشويه، لا كمال التحقيق(8)، وقد أثبت السوسوة كيفية هذا العبث من خلال استقرائه وتصويباته لهذا العمل.
[1ــ2]: تحقيق “نور المعارف”
من ملاحظات السوسوة ومآخذه على المحققين ومنهجيات تحقيقهم، ما جاء في نقده لمحقق “نور المعارف”؛ إذ كان العيب الثاني من عيوب منهج التحقيق عند محقق هذا الكتاب “أنه أثبت للمخطوطة من عنده عنوانًا مسجوعًا، هو “نور المعارف في نظم وقوانين وأعراف اليمن في العهد المظفري الوارف””(9).
ويعلق على هذا العنوان، بقوله: “وكان الأحرى أن يضع له عنوانًا بين معكوفين يدل على محتواه ما أمكن… والعرف الجاري في التحقيق أنه لا يجوز إضافة كلمة في العنوان ما لم ترد في الأصل وقد عدوا من أخطاء شيخ العربية محمود محمد شاكر إثباته كلمة “فحول” في كتاب محمد بن سلام الجمحي “طبقات فحول الشعراء”. ولم يشفع له احتجاجه أنه رأى الكلمة بنفسه في مخطوطة مكتوبة كتابة ضعيفة فقواها بقلمه”(10).
فالسوسوة ــ هنا ــ يأخذ على المحقق إضافته إلى عنوان المخطوطة، مفندًا هذا السلوك بمعيارٍ مهمٍّ من معايير التحقيق، الذي ينصُّ على ذكر العنوان كما هو بدون إضافةٍ أو تغيير ما لم ترد إضافة أو تغيير في الأصل. وضرب مثالًا بشيخ العربية، الذي أُخِذ عليه مثل هذا المأخذ؛ فمع مكانته في تحقيق التراث ومعرفته بأصول التحقيق، واحتجاجه السابق، لم يسلم من مأخذٍ كهذا، فكيف سيكون الأمر مع محقق “نور المعارف”؟!
وقد كان السوسوة واحدًا من المنتقدين إضافة محمود محمد شاكر في عنوان “طبقات الشعراء”؛ إذ يقول في موضعٍ آخر إن محمود محمد شاكر “أخرج كتاب محمد بن سلام الجمحي “طبقات الشعراء” عام 1952 وغيَّر عنوانه إلى “طبقات فحول الشعراء” برغم أن الطبعات السابقة عليه ليس فيها كلمة (فحول)، وكل المخطوطات تخلو منها أيضًا”(11).
[1ــ3]: ذم المستشرقين
ضمن مآخذ الدكتور عباس السوسوة على المحققين، ونقده لمنهجياتهم، يأتي نقده فكرة يرددها المحققون العرب، في كتبهم ومقالاتهم وتحقيقاتهم، لكتبٍ سبق أن أخرجها قبلهم بعض المستشرقين، “تقوم هذه الفكرة على ذم هؤلاء المستشرقين الذين تعلموا من أعمالهم طرق التحقيق الحديثة. ويصدق عليهم القول الشائع أنهم “مثل الشعير يؤكل ويذم””(12).
ومن هؤلاء المستشرقين، المستشرق الألماني، الذي اتخذ لنفسه اسمًا عربيًّا حبًّا لهذا التراث العربي، المستشرق “فلهم آلـﭫرث الذي أخرج دواوين الشعراء الستة الجاهليين، والأصمعيات، وديوان العجاج وغيرها. وقد سمى نفسه (وليم بن الورد البروسي)”(13). فهذا المستشرق “هاجمه عبد السلام هارون وأحمد محمد شاكر في مقدمة تحقيقهما مجموعة (المفضليات) للمفضل الضبي، ومجموعة (الأصمعيات) للأصمعي. كان الهجوم قاسيًا ومع ذلك اعتمدا على نشرته”(14).
هذه الفكرة المتداولة عن المستشرقين بعيدة عن الموضوعية، من وجهة نظر الدكتور السوسوة، الذي نظر إلى هذه الفكرة من زاوية موضوعية ــ أيضًا ــ فلم يبخس المستشرقين حقهم، بل قال ما ينبغي أن يقال.
وفي الحقيقة أن المستشرقين قدّموا خدمة جليلة للمخطوطات التراثية بتحقيقاتهم التي تخرجها إلى النور، وتحفظها من الضياع. والنظر إليهم نظرة قائمة على خلفياتٍ عرقيةٍ وأيدلوجية، كونهم يحققون مطامع استعمارية هادفة إلى طمس هويات الشعوب أمرٌ فيه إجحاف لأمثال هؤلاء؛ فالاستشراق “في حالاتٍ كثيرة لم يقترن بمحاولات طمس الثقافات الشرقية المحلية ــ وهو إجراءٌ واضح كل الوضوح في أماكن أخرى على مدى تاريخ الاستعمار الغربي ــ بل اقترن بإحياء هذه الثقافات وبعث القوة فيها من جديد”(15). وهو ما قام به كثيرٌ من المستشرقين، الذين حققوا التراث العربي، فأحيوا هذا التراث، وبعثوا فيه القوة من جديد.
[1ــ4]: موهبة التحقيق
بمثل هذه الملاحظات والمآخذ، التي وجدها السوسوة عند المحققين، اتضح ملمحٌ من ملامح نقده المنهجي، حيث تجلّى من خلالها، مدى إلمامه بمنهجيات التحقيق وأدواته، إلى جانب إلمامه الواسع بالمصادر والمراجع وتفاصيلها وبياناتها.
ويرى الدكتور أحمد قاسم أسحم أن السوسوة ــ بذلك ــ قد امتلك موهبة التحقيق، وأنه لو استثمر هذه الموهبة؛ لأبدع في ذلك، ولأصبح وأحدًا من مشاهير المحققين(16). ولكن السوسوة، مع امتلاكه هذه الموهبة، لم يعمل في التحقيق، ويبرر ذلك؛ بعدم توافر البيئة المناسبة في المكتبة اليمنية، لأسبابٍ مختلفة، أبرزها العوائق الإدارية وعدم توافر المخطوطات بنسخها المتعددة(17).
[2]: مآخذ على التراجمة
الترجمة في أبسط معانيها “هي تفاعل متصل ونشط بين مجتمعات وحضارات مختلفة، لتمثل صلة مباشرة بين الحضارات لجميع مجالات المعرفة في العلوم الإنسانية”(18).
واللغة هي ميدان هذا العمل، فالترجمة، “نقلٌ من لغةٍ إلى لغة بدقة وأمانة”(19)؛ لذلك فالترجمة “هي اللغة في شكلها، ومحتملها، وممكنها، وهجرتها، وتحولها، وانهدام اليقين فيها”(20).
وللسوسوة مآخذ واستدراكات على بعض التراجمة، من ذلك، ما جاء في عرضه ونقده لكتاب “اتجاهات البحث اللساني” لـ(ميلكا إفيتش)، الذي ترجمه عن الإنجليزية سعد عبد العزيز مصلوح، ووفاء كامل فايد، فمن مآخذه عليهما في ترجمتهما لهذا الكتاب:
“لم يكن نقل الأعلام الأجنبية إلى العربية يقارب نطقها في مصادرها الأصلية”(21).
ومن أمثلته التي أوردها على ذلك، هذا المثال:
“ص49 فرانس بوب. صوابه: فرانز بوب”(22).
ويقع التراجمة في مثل هذه الأخطاء عند ترجمتهم من لغة إلى أخرى، فقد لا تتضح عندهم الفروق الصوتية بين اللغتين، ويستبدلون الأصوات غير الموجودة في لغتهم بأصواتٍ مشابهة أو مقاربة لتلك الأصوات، وقد يحالفهم التوفيق في ذلك، أو الإخفاق الذي كان من نصيب مترجمي “اتجاهات البحث اللساني”.
وهذا الإخفاق هو المأخذ نفسه، الذي أخذه السوسوة على محمد الشرقاوي في ترجمته لكتاب “اللغة العربية” لـ(كيس فرستيغ)؛ فهذا المترجم وقع في مثل “هذه الأخطاء العلمية؛ إذ حسب أن التاء طاءً والقاف خاء والعين همزة والغين جيمًا(…) إلخ”(23).
وقال إن المترجم كان بإمكانه تجاوز مثل هذه الأخطاء، لو كان عاد إلى المصادر العربية التي رجع إليها المؤلف(24).
وإضافة إلى مآخذه على التراجمة، لديه معرفة بهؤلاء المترجمين، وبالمؤلفات التي ترجموها، وطبعاتها، وأسماء مؤلفيها، وغير ذلك من البيانات التوثيقية. وقد كانت ملاحظاته المنهجية على كتاب الصوينع “توثيق الترجمة والتعريب” دليلًا على هذه المعرفة؛ إذ أخذ عليه مآخذ في منهجية: إيراده للمعلومات، والأسماء، والتواريخ. ومن تلك الملاحظات على هذا الكتاب، تصويب الأخطاء في الأسماء اللاتينية. من مثل تصويبه لهذا الخطأ:
“Baris صوابه: Boris”(25).
- عباس علي السوسوة، “كمال التشويه الذي لحق بديوان ابن سودون البشبغاوي”. مجلة العرب، الرياض، جـ (12،11)، السنة (42)، الجماديان 1428هـ ــ (أيار ــ حزيران/ مايو ــ يونيو 2007م)، ص: (790). ↩︎
- نفسه، ص: (795). ↩︎
- إحالة على الديوان المُحقَّق. ↩︎
- عباس علي السوسوة، “كمال التشويه”. مرجع سابق، ص: (795). ↩︎
- نفسه، ص: (798). ↩︎
- نفسه، ص: (810). ↩︎
- نفسه، ص: (811). ↩︎
- نفسه، ص: (789 ــ 790). ↩︎
- عباس علي السوسوة، “تحقيق نور المعارف ومحنة الباحث الجاد في اليمن الشقيق”. صحيفة الثقافية، تعز، العدد (265)، 21 أكتوبر 2004م، ص: (20).. ↩︎
- نفسه. ↩︎
- عباس علي السوسوة، “المستشرقون وخبز الشعير المذموم”. مجلة جذور، إصدارات النادي الثقافي الأدبي بجدة، العدد (12)، المجلد (7)، محرم 1424هـ ـ مارس 2003م، ص: (32). ↩︎
- نفسه، ص: (30). ↩︎
- نفسه. ↩︎
- نفسه، ص: (32،31). ↩︎
- جي . جي كلارك، ” التنوير الآتي من الشرق”. ترجمة: شوقي جلال. سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد (346)، ديسمبر 2007م، ص: (322). ↩︎
- من المقابلة التي أجراها معه الكاتب، في مكتبه بكلية الآداب، في صباح يوم الأحد: 2 ربيع الآخر 1430هـ ــ 29 مارس 2009م. ↩︎
- من مقابلة قصيرة أجراها معه الكاتب، في صباح يوم السبت: 15 ربيع الآخر 1430هـ ــ 11 إبريل 2009م. ↩︎
- محمد أحمد صالح حسين، “أثر الصراع العربي الإسرائيلي في حركة الترجمة من العربية إلى العبرية”. مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، المجلد(36)، الجزء (3)، يناير ــ مارس 2008م، ص: (241). ↩︎
- نفسه. ↩︎
- منذر عياشي، “الترجمة وإشكالية التأصيل”. مجلة ثقافات، كلية الآداب ــ جامعة البحرين، العدد (13)، 2005م، ص: (12). ↩︎
- ميلكا إفيتش، “اتجاهات البحث اللساني، عرض ونقد”. مجلة علوم اللغة، القاهرة، العدد (33)، 2006م، ص: (315). ↩︎
- نفسه. ↩︎
- عباس علي السوسوة، “اللغة العربية: تأليف: كيس فرستيغ، ترجمة: محمد الشرقاوي”. عرض ونقد. مجلة الدراسات اللغوية، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، العدد (3)، المجلد (9)، رجب ـ رمضان 1428هـ ــ يولية ـ سبتمبر 2007م، ص: (217). ↩︎
- نفسه. ↩︎
- .عباس علي السوسوة، “ملاحظات على كتاب الصوينع (توثيق الترجمة والتعريب)”. مجلة علامات، إصدارات النادي الأدبي الثقافي بجدة، العدد (57)، المجلد (15)، رجب 1427هـ ــ سبتمبر 2005م، ص: (100). ↩︎