المرأة ورواية السرديات المتعددة في “طفل الثامنة والتسعين نصراني”
[1]: المرأة في الرؤية السردية
يمثّل الانتصار للمرأة واحدة من خصائص “ما بعد الحداثة” في رواية “طفل الثامنة والتسعين نصراني”. ذلك؛ من خلال حضور المرأة، بشكل مغاير لما اعتادت عليه من تهميش وانتقاص. وهو ما قام عليه تسريد مواقفها المنتصرة لهوية الإنسان، والمجابهة للمألوف، غير المتسق مع جوهر الطبيعة الإنسانية.
لقد أخلصت الممرضة “إليس”، في تربيتها ورعايتها للطفل “أحمد النصراني” بنبلٍ منقطع النظير. وكان للمعلمة “سافو/ بلقيس إفيجينا” الفضل في إذكاء فكرة الشيوعية في ذهن البطل. ومن ثم اضطلاعها بتعليمه هذه الفكرة، حتى تشرّبها، وتبنّاها، وعمل على انتشارها.
وانتصرت الفتاة اليهودية “فرحة” لجوهرها الإنساني، الذي تمثّل في تداعيها العاطفي مع حبيبٍ لا ينتمي إلى عقيدتها. كان الحبيب بطل الرواية، الذي لم تفرط فيه، تكاملًا منها مع موقفه المنتصر لجوهره الإنساني، في علاقته الوجدانية معها.
ومثل “فرحة”، انتصرت الفتاة الريفية “علوم” لهمس قلبها؛ إعجابًا بـ “أحمد النصراني”. ثم حبًّا له وتكرارًا للقاء به، حتى نالت غايتها في زواجهما، متجاوزة ــ بذلك ــ تجربتها المرة مع فقيه القرية، الذي سبق أن استدرجها إلى رغبته الشيطانية(1).
وحينما اندلع صراعٌ بين أهالي قريتين، على مورد الماء الجبلي، اضطلعت أم البطل “مسك” بدورٍ فاعلٍ، في حل المشكلة وتسوية الأمر، بطريقة توافق عليها الطرفان المتنازعان(2).
وعاودت حيوية الشباب عددًا من النساء قبل وفاة كل واحدة منهن: “إليس”، وأم “أحمد النصراني”، وغيرهما ممن كان لهن فضلٌ عليه في تربيته وتنشئته وتعليمه. حدّ أن يثير ذلك التساؤل السردي عن مدى شمولهن كلّهن بهذه السمة(3).
وفي سياق ذلك، يأتي ارتباك البطل، وحيرته في كثافة أدوار المرأة الفاعلة في نسيج تجربته. ومن ثم عجزه عن تحديد أيٍّ منهن كانت سيدة التوهج الحيوي. إذ يقول: “فشلتُ للتاريخ! في تبين ماهيات موقدة النار! أسافو؟! أم فرحة؟! ماريا؟! إليسانو؟! مسك؟! علوم؟! الياسمين؟! نبيهة عزيم؟!، هل هي مريم سعيد عبادي الذئبة الحمراء الردفانية التي دوخت الإنجليز فسموها المرأة الحديدية؟ هل هي دعرة حقًّا؟!!!! أم…؟! أم…”(4).
وتتنامى هذه التساؤلات في ذهن البطل؛ فتظهر في مواضع سردية متعددة، بصيغتها الباحثة عن ماهية المرأة. لا سيما ما ورد منها مرويًّا على لسان “عبير”، متحدثة عن ذلك: “شغلني سؤال المعلم الاستنكاري: من المرأة؟! كثيرًا!”(5). حتى يصل إلى الالتباس بين ماهية المرأة وماهية اللغة، متسائلًا أتكون اللغة هي المرأة: “هل كانت اللغة هي المرأة؟! هل كانت، لا سيما، والفاعلون جميعهم… ينثالون كما تشاء لهم العبارة، وكما يشاؤون، وكما تشاء المرأة أيضًا؟؟؟!”(6).
[2]: رواية السرديات المتعددة
تحيل آلية الكتابة السردية ــ في هذا العمل ــ على نوعٍ من ظَفَرِ الكاتب، بما يتسع لهاجسه الساعي إلى المغايرة؛ إذ كانت ماهية السرد الروائي فاعلة في استيعاب رؤيته الفنية. ولا شك في ما يتميز به جنس الرواية من اتساعٍ لإمكانات التجريب، التي أفضت إلى نسقٍ من السرديات المتعددة، التي روت أحداث حكايةٍ واحدةٍ، تلك المتمثلة في سيرة “أحمد النصراني”.
[2ــ1]: تعدد (السرديات/ الروايات)
تتمثّل البُنية الكلية لهذا العمل في عددٍ من (السرديات/ الروايات)، التي بدأت بحزمة من الأوراق والملفات، المتضمنة سيرة “أحمد النصراني”. وصلت هذه الحزمة، إلى المؤرخ والأكاديمي “وليد عبد الباسط حنبلة”. من شخص يُدعى “عدنان المغلس”. اطلع عليها؛ فوجد من بينها: مجموعة مقالات منسوبة إلى “ميمون الراهب”. ومجموعة مقالات أخرى شبيهة برواية مقطعة ضاع كثير منها، عنوانها “بنيلوبي حاملة صخرة سيزيف وواشمتها”، منسوبة إلى “بلقيس إفيجينا”. وأوراق متفرقة منسوبة إلى “نبيل مسعود”. كما وجد رواية مكتملة منسوبة إلى “عمر عيسى طربوش”.
قرر المؤرخ “حنبلة” العمل على تحقيق الرواية، والخروج من هذه النسخ المتعددة برواية واحدة، أقرب للكمال. تواصل بـ “عمر عيسى طربوش”، وحينما التقى به، فاجأه الرجل برواية منشورة، في الموضوع نفسه، عنوانها “سرور البينيان”. لناقد وروائي لم يسبق أن سمع به، اسمه “باسم عبد القيوم العريقي”. أخذها “حنبلة”، وأضافها إلى مادته التي يعمل عليها، بعد أن اتصل بمؤلفها “باسم”، وتوافق معه على ما يقوم به.
من خلال عمل “حنبلة” على تحقيق الرواية، حدس أن النص الأصلي يعود إلى أخ “باسم”، “عبد الخالق عبد القيوم”، الذي لقي حتفه في حادث سيرٍ. بمعنى أن أخاه “باسم”، قد اشتغل على نوعٍ من السردية ذات الارتباط التكاملي بالنص الأول؛ فأنجز روايته تلك.
وإلى ذلك، حصل المؤرخ “حنبلة” على أوراق أخرى، من “عبير”، وأشخاصٍ آخرين. جميعها تدور حول الموضوع نفسه “سيرة أحمد النصراني”؛ فاستمر في عمله على تلك المادة الثرية المتعددة، بمعية عددٍ من أصحابها، لا سيما “عمر طربوش”، و”باسم”، و”عبير”؛ إذ عمل هؤلاء على مساعدته في الخروج برواية واحدة، حتى انتهى منها، وغير اسمها إلى “أحمد النصراني”. أصدر طبعتها الأولى عام 2007م. ثم تداعى مع ما وُجِّه إليه من نقد؛ فأعاد طباعتها ثانية، عام 2013م، مُنكرًا في مقدمتها بعضًا ممّا أورده في طبعتها الأولى.
[2ــ2ــ1]: الناقد: شخصيةً، وكاتبًا روائيًّا
من خلال ما قام به “وليد حنبلة”، صار واحدًا من (شخصيات الرواية/ الشخصيات الساردة)؛ إذ تداخلت فيه عددٌ من المسارات: مؤرخًا وناقدًا وساردًا وقارئًا في وقت واحد. وبذلك، ظهرت شخصيته بمساراتها المتداخلة، وتجلياتها الفاعلة في ضبط النسيج السردي، وتصويب بعض الرؤى، وإضافة بعض الاستدراكات.
ثم يظهر دور نقدي آخر، يستهدف التعقيب على ما وصل إليه المحقق “حنبلة”، اضطلع به “باسم عبد القيوم”. الذي تداخلت في شخصيته السردية شخصيته الناقدة. والأمر نفسه، في ما أفضى إليه التداخل في شخصيتي: “سامر”، و”عبير”.
ويعلل الكاتب هذه الآليات السردية المتداخلة ــ وقصديته الهادفة إلى التماهي بين العملية النقدية والسردية وما يرتبط بهما من مسارات كتابية ــ بالقول: “إن الناقد شخصية أو فعل نقديّ يكاد يكون مغيبًا لا في الرواية العربية، بل في الرواية العالمية، فحاولتُ سحبه إلى داخل متون العمل وجرجرة كرامته الصارمة في فعليات السرد، وعبر إهابات متنوعة وحيوية، تارةً ناقدًا سرديًّا محضًا، وتارة شخصية من الشخصيات الفاعلة والمؤثرة”.
[2ــ2ــ2]: استشرافُ “بعد ما بعد الحداثة”
إلى ما اضطلعت به آلية التعدد في سرديات العمل ــ وما أضفتْه على الرواية من تفعيلٍ لدور شخصية الناقد ساردًا وناقدًا ــ فإن هذه الآلية، من خلال الإسهام السردي للناقد، قد استشرفت فضاءً حداثيًّا، اصطلحت عليه سياقات الرواية، بـ “بعد ما بعد الحداثة”.
ويكتنز هذا الاستشراف نقلةً فنية من “ما بعد الحداثة”، إلى “بعد ما بعد الحداثة”؛ إذ تُمَثّل “طفل الثامنة والتسعين نصراني” ردًّا على النمطية التي وقعت فيها الرواية مؤخرًا، بوصف رواية الصلوي ــ هذه ــ نموذجًا مختلفًا لا سابق له. لا سيما في ما اتخذه (الناقد/ السارد)، من مواقف مناهضة للنظريات النقدية. وما ترتب على ذلك، من إعلانه التمرد عليها. ومحاولته اجتراح شكله الفني الخاص، الأكثر ارتباطًا بالإنسان والمكان والهوية والتاريخ والأخلاق والفضيلة. بما هو عليه من آلية اشتغالٍ هادفٍ، إلى إرساء قيم الـ”بعد ما بعد حداثية”، التي يبشّر بها الكاتب، باعتبار مجيء هذه القيم حتميةً؛ لرأب تلك التصدعات في جسد وروح رواية “ما بعد الحداثة”.
وتجلّى هذا الاستشراف، في نسقٍ من الإشارات السردية، إلى “باسم” صاحب إحدى السرديات، ورغبته في إضفاء قيم “بعد ما بعد الحداثة” على هذا العمل. وردت تلك الإشارات، في لقاءاته مع المحقق “وليد حنبلة”، الذي يقول عن ذلك: “أمضينا سبع عشرة جلسة حتى حولنا البينيان النصراني إلى نصارى بينيانات. بواتق إثارة… سياقات ما بعد حداثية… ولما اتفقنا على الطباعة والشروع في النشر؛ غيّرَ “عاصي الرأس” باسم خططنا تمامًا! رباه!
إنه يريدها بعد ما بعدية!
“بعد ما بعد حداثية”
“post postmodernism””(7).
ومثل ذلك، هو ظهور هذا النسق في إشارة المحقق “حنبلة” إلى التباس الأمر عليه، إذ لم يستطع التفريق بين كثيرٍ من الأشتات والتفاصيل والسياقات والتحولات في آلية السرد. منها “ما بعد الحداثة”، و”ما بعد بعد الحداثة”(8). وصولًا إلى تبشيره لـ”باسم” بأنه سينال غايته: “سوف تحظى بالرواية البعد ما بعد حداثية التي تريد!”(9).
كذلك، يتجلى هذا النسق الاستشرافي، في الصياغات المحيلة عليه إحالة غير مباشرة، في محورية “بعد”، و”ما بعد”. من مثل: “ما بعد ختامًا”(10). و”هذا الما بعد”(11). إذ يمثّل هذا التجلي غير المباشر نوعًا من التداعي مع هاجس المغايرة، الممتد من الحداثة إلى “ما بعد الحداثة”. ومنها إلى “بعد ما بعد الحداثة”.
[2ــ3]: التشتيت نسق “ما بعد حداثي”
من خلال آلية التسريد المتعدد ــ تلك ــ يظهر نسق من آليات التسريد “ما بعد حداثي”، قائمًا على انتصار النص لنوعٍ من الإيهام والخديعة الفَنِيّة واللَّعِب والتّشتِيت. وقد تجلّت رغبة التشتيت، في واحدٍ من السياقات السردية، على لسان البطل “أحمد النصراني”، وهو يتحدث إلى مدوّن سيرته “باسم”. إذ يقول له: “لا تحاول لَمّ الخيوط جميعَها… شتّتِ الأصلَ ما استطعت”(12).
وتستند رغبة التشتيت ــ هذه ــ إلى فكرة النسبية في الحقيقة التي تتشظّى بين كثير من وجهاتِ النظرِ المتضاربة، من غير أن تظهر غلبةٌ لأيّةٍ منها على غيرها. وبذلك؛ تتشكّل بُنية العمل الروائي من نصوص متعددة، وهو ما قام عليه تسريد الحكاية في هذا العمل، الذي استوى رواية لروايات أخرى.
- هاني الصلوي، “طفل الثامنة والتسعين نصراني”. ط1، مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، القاهرة، 2023م، جـ1/ ص206 ــ 238. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص154 ــ 157. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص245. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص341. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص340. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص351،350. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص74. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص329. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص344. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص76. ↩︎
- نفسه، جـ2/ ص220. ↩︎
- نفسه، جـ1/ ص81. ↩︎